بدعوة من رابطة العالم الإسلامي قام السيد رئيس أساقفة فيينا الكاردينال الدكتور كريستوف شونبورن والوفد المرافق له بزيارة عمل للرابطة الأسبوع الماضي سبق أن أعلن عنها الفاتيكان . وقد وجد الكاردينال في استقباله بالمطار عددا من مسؤولي الرابطة كان في مقدمتهم الدكتورمحمد المجدوعي، مساعد الأمين العام للعلاقات والتواصل الدولي ، والأستاذ عبد الوهاب بن محمد الشهري ، وكيل الاتصال المؤسسي ، بالإضافة إلى السيد جورج بوستنجر ، سفير جمهورية النمسا لدى المملك العربية السعودية .
وفي مقرِّ الرابطة الفرعيِّ بالرياض ، استقبل الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، الأمين العام للرابطة ، رئيس هيئة علماء المسلمين، رئيس أساقفة فيينا ، حيث بحث الجانبان عددًا من القضايا ذات الاهتمام المشترك، ومن بينها سبل تعزيز بناء الجسور بين الأمم والشعوب، وتفعيل التعاون والتواصل بين القيادات الدينية العالمية من أجل مواجهة الصِّدام الحضاري وترسيخ قيم التسامح والعيش المشترك. كما تحدث الطرفان عن وثيقة مكة المكرمة وتأثيرها العالمي البارز في العلاقات بين الأديان والثقافات، ودورها الفاعل في معالجة أبرز الأزمات الدولية. وقد أشاد رئيس أساقفة فيينا بمنجزات الوثيقة على الصعيد العالمي، منوها بما حملته مضامينُها من رسائلَ إيجابيةٍ للأجيال القادمة، كما أعرب عن اهتمامه برؤية الرابطة وإعجابه بما تقوم به من أعمال ومبادرات حضارية وإنسانية على الصعيد الدولي .
وفي الواقع فإن هذه الزيارة تكتسي أهميةً كبيرةً لاعتبارات عديدة من بينها المكانة الرفيعة لرئيس أساقفة فيينا باعتباره من أبرز القيادات الدينية الفاعلة في مجال تعزيز الصداقة والتعاون بين الحضارات والتعايش بين أتباع الأديان من جهة ، ومن جهة أخرى بالنظر إلى كون الرابطة أصبحت اليوم من أهم المنظمات الدولية التي تدافع عن الرسالة النبيلة والحضارية للأديان ، وفي طليعة المؤسسات الفكرية التي تهتم بالحوار والتعايش بين أتباع الأديان من خلال ومؤتمراتها العلمية ومبادراتها الإنسانية والإغاثية . ومن خلالوثائقها المرجعية وفي مقدمتها "وثيقة مكة المكرمة" التي أكدت على أن " التنوع الديني والثقافي في المجتمعات الإنسانية لا يبرر لصراع والصدام ، بل يستدعي إقامة شراكة حضارية ايجابية وتواصلا فعالا يجعل التنوع جسرا للحوار والتفاهم والتعاون لمصلحة الجميع" . كما أوضحت هذه الوثيقة أن " أصل الأديان السماوية واحد وهو الإيمان بالله سبحانه إيمانا يوحده جل وعلا لا شريك له ، وشرائعها ومناهجها متعددة ولا يجوز الربط بين الدين والممارسات السياسية الخاطئة لأي من المنتسبين إليه" . وفي السياق نفسه تبين الوثيقة أن " براءة الأديان من مجازفة معتنقيها ومدعيها فهي لا تعبر إلا عن أصحابها ، فالشرائع المتعددة تدعو في أصولها إلى عبادة الخالق وحده ، والتقرب إليه بنفع مخلوقاته ، والحفاظ على كرامتهم ، وتعزيز قيمهم ، والحفاظ على علاقاتهم الأسرية والمجتمعية الايجابية " . كما أكدت الوثيقة على أن " تحقيق معادلة العيش المشترك الآمن بين جميع المكونات الدينية والإثنية والثقافية على اتساع الدائرة الإنسانية يستدعي تعاون القيادات العالمية والمؤسسات الدولية كافة ، وعدم التفريق بين الناس على أساس ديني أو عرقي أو غيره".
وتكتسي هذه الزيارة كذلك أهمية بالغة بالنظر إلى كونها تجسد استمرارية في التواصل الفعال للأمين العام لرابطة العالم الإسلامي مع مسؤولي مؤسسة الفاتيكان بما تمثله من رمزية دينية عالمية، وذلك من أجل تعزيز التعاون والفهم والتفاهم والتسامح من أجل رفاهية البشرية وإسعاد المجتمعات الإنسانية ونشر قيم السلم والأمن والعيش المشترك ومواجهة التطرف والغلو والعنف والكراهية .
لقد سبق للشيخ العيسى أن قام بزيارة رسمية لدولة الفاتيكان عام 2017 التقى خلالها بابا الفاتيكان في روما وتباحث معه حول عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، والتي تصب في صالح السلام العالمي، خصوصا التعاون بين العالم الإسلامي والفاتيكان في قضايا السلام والتعايش ونشر المحبة. كما عقد اجتماعاً مع رئيس المجلس البابوي بالفاتيكان الكردينال جان لوري توران، وبحث معه سبل إنشاء لجنة اتصال دائمة بين الفاتيكان ممثلاً بالمجلس البابوي ورابطة العالم الإسلامي لبحث عدد من المبادرات. وفي عام 2018 التقى الشيخ العيسى رئيس الوزراء أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين، الذي نوه بالجهود التي تقوم بها رابطة العالم الإسلامي وأكد على أهمية العلاقة الإيجابية التي تجمع الرابطة بالفاتيكان، وعلى تمسك الطرفين بإقامة حوار مثمر وبناء، مشيرا إلى أن الاختلاف هو ناموس الخالق في خلقه، وأنه لا يمكن فرض القناعات، وإنما احترام الاختلاف هو جوهر الحوار في نطاق المساحة الواحدة ووفق القواسم المشتركة التي تجمع بين الناس.
يتضح مما سبق أن زيارة السيد رئيس أساقفة فيينا الكاردينال لمقر الرابطة الفرعي في الرياض تندرج في إطار مسار ديبلوماسي يروم مواصلة التشاورالبناء لتعزيز علاقات التعاون والشراكة بين رابطة العالم الإسلامي والفاتيكان من أجل تحقيق الأهداف المشتركة . وهو مسار يحرص الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي على رعايته والإشراف عليه من خلال تطبيق رؤية جديدة للرابطة تهدف إلى توجيه الوعي الإنساني نحو المزيد من التفاهم، وبناء مجتمعات بشرية متعايشة، تربطها قيم التعاون والتسامح، وتجمعها روابط التواصل الحضاري، التي من خلالها تتمكن الأسرة الإنسانية الواحدة من تجاوز عقبات أعداء التعايش والتواصل بين أتباع الحضارات والثقافات والأديان، عبر تعزيز ثقافة التواصل والسلام. لقد شدد الأمين العام للرابطة في مناسبات عديدة على المسؤولية الكبيرة لقادة الأديان في تعزيز المفاهيم الحضارية والإنسانية ونشر قيم المحبة والسلام وتربية الأجيال على الحوار الفعال.وأن أتباع الأديان والثقافات أحوج ما يكونون اليوم إلى بناء حوار فعال متحرر من رواسب الماضي ، من أجل تعزيز تواصلهم الإنساني وتلاقيهم وتعاونهم في إطار المشتركات والمصالح .
****************************
المحجوب بنسعيد
باحث في التواصل والحوار الثقافي