وعيا بأن هناك حاجة ملحة للتراحم بين الناس على اختلاف أعراقهم وأديانهم ، خاصة في ظل تزايد النزاعات المسلحة وأحداث العنف والإرهاب التي أصبحت تهدد السلم والأمن العالميين ، بادرت منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، ورابطة العالم الإسلامي، والرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية، عام 2021 بإطلاق مبادرة حضارية كبرى تتمثل في الإعلان عن «اليوم العالمي للرحمة»،
والاحتفال به في يوم 21 أبريل من كل سنة ، بناء على توصية صادرة عن المشاركين في المؤتمر الدولي حول "القيم الحضارية في السيرة النبوية" الذي عقد في مقر الإيسيسكو يوم 27 مايو 2012 تحت الرعاية السامية للعاهل المغربي الملك محمد السادس . وتدعو التوصية إلى تخصيص يوم عالمي للرحمة في الحادي والعشرين من أبريل كل عام "لإبراز قيمة الرحمة باعتبارها قيمة مركزية في تاريخ البشرية ينبغي أن تكون مقياسا للسلوك الحضاري الرشيد بين الأمم والشعوب والدول والأفراد " كما تمت الدعوة إلى ترسيخ منظومة القيم الحضارية ضمن آليات العمل الدولي، عبر دعوة بقية المجتمع الدولي والهيئات الدولية وكل محبي السلام إلى إعلان يوم عالمي للرحمة في الحادي والعشرين من أبريل كل عام.
وكانت الخطوة الأولى نحو اعتماد المبادرة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة ، هي مصادقة مجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة العالم الإسلامي على هذه المبادرة في دورته الثامنة والأربعين المنعقدة في إسلام آباد بجمهورية باكستان الإسلامية في مارس 2022، وتكليف المملكة المغربية بتتبع الاجراءات المسطرية اللازمة باسم الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي.
وتلتها خطوة ثانية تمثلت في تنظيم احتفالية دولية كبرى يوم 21 أبريل 2022 في مقر الإيسيسكو بمدينة الرباط حضرتها شخصيات وازنة من عالم السياسة والديبلوماسية والفكر والأدب والإعلام . وخلال هذه الاحتفالية ألقى كلمة كل من المدير العام للإيسيسكو الدكتور سالم المالك والأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب الدكتور أحمد عبادي ، كما تم تقديم كلمة مصورة بالفيديو للأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى . وأبرزت تلك الكلمات جميعها دواعي المبادرة وأهميتها وأهدافها ، كما دعت كل الجهات المحبة للسلام والعيش المشترك إلى دعمها والمساهمة في الاحتفال بها على الصعيد الدولي .
وكانت الخطوة الثالثة هي تنظيم احتفالية يوم 14 أبريل 2023 ، عقدتها الإيسيسكو في مقرها بالرباط بالشراكة مع الرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية ورابطة العالم الإسلامي، وتزامنت هذه الاحتفالية مع العشر الأواخر من شهر الفضيلة والرحمة والغفران رمضان المبارك لعام 1444 هجرية وتنظيم المعرض والمتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية ، وحضرها عدد من المسؤولين والسفراء وممثلي المنظمات والهيئات الدولية ونخبة من الخبراء والباحثين وممثلي وسائل الإعلام المحلية والدولية .
وفي بداية هذه الاحتفالية قدم الدكتور عبد الإله بنعرفة، نائب المدير العام للإيسيسكو، مداخلة تمهيدية كانت تأصيليا شاملا حول مفهوم الرحمة أشار في مستهله إلى السياق العام المتصل بمبادرة اليوم العالمي للرحمة ومختلف المراحل التي مرت منها . وأكد في عرضه أن الإنسانية اليوم في حاجة ماسة إلى أخلاق الرحمة لحفظ كرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية والسلم العالمي ، موضحا أن الغاية من الوجود هو الرحمة وأن علم الرحمة أسبق من علم الوجود .
بعده ألقى الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير العام للإيسيسكو، كلمة أبرز من خلالها أن البشرية اليوم في أشد الاحتياج إلى صفحات الكمال الإنساني الرحيم والاقتداء بوهج الرحمة المحمدي وبسيرة رسولنا الكريم المجسدة لأسمى تجليات قيمة الرحمة . وقال إن البشرية لم تعرف قط رحيما بين الناس مثل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مشيرا إلى أن كبار الكتاب والمفكرين ومن استفاضت رؤاهم وأنفاسهم لا تزال تتلاحق في سبيل الإحاطة بمشاهد الرحمة المحمدية، التي هي رحمة ربانية مهداة للبشرية. وفي ختام كلمته توجه بالشكر لوزارة الخارجية بالمملكة المغربية على جهودها المتواصلة من أجل تحقيق هذه المبادرة النور.
وفي عرض فكري عميق وشامل أبرز الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية، أبعاد مفهوم الرحمة وتجلياته، المتمثلة في التوحيد والاتصال والتزكية والإبصار والإحسان.وأوضح أن الرحمة قيمة وأثر في الوقت نفسه ، مستفيضا في تفسير مفاصل ذلك الأثر ضمن نسق يتألف من سبعة أبعاد هي البعد التمثلي والتصوري ، والبعد الفكري والعلمي ، والبعد الوجداني ، والبعد الاجتماعي ، والبعد الدولي ، والبعد الكوني العملي ، والبعد المتصل بالأدوار والسلط .
لقد سبق للعالم الإسلامي أن اقترح مبادرات حضارية أنسانية وعرضها على الأمم المتحدة ودافع عنها بالحكمة والمنطق من اجل اعتمادها وإعلانها أياما عالمية من خلال قرارات صادرة عن الجمعية العام لهيئة للأمم المتحدة ، ومنها اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني ( 2 ديسمبر 1977) ، واليوم الدولي للرياضة من أجل التنمية والسلام ( 23 أغسطس2013) ، واليوم الدولي لمكافحة كراهية الإسلام ( 15 مارس 2022) .
في الورقة المفاهيمية لحفل اليوم العالمي للرحمة التي أعدتها الإيسيسكو ووزعتها على الحاضرين ورد أن الغاية الأساسية من إعلان يوم عالمي بشكل عام هو بهدف المحافظة على السلم والأمن الدوليين ، وتعزيز التنمية المستدامة وحماية حقوق الإنسان . وأوضحت الورقة المفاهيمية أن التراث الديني منذ فجر التاريخ قد أكد بقوة على تغليب قيمة الرحمة وحفظ الكرامة في العلاقات الإنسانية ، ثم جاء الهدي المحمدي بأخلاق الرحمة في عمومها وكمالها لتشمل حقوق الإنسان والإنسانية وحقوق باقي الموجودات بما يجعل الإنسان في سلم مع نفسه ومع باقي الوجود. كما تم الـتأكيد على أن الإنسانية في حاجة ماسة إلى أخلاق الرحمة في مختلف المعاملات بين الأفراد والجماعات والشعوب والهيئات والدول
بناء عليه ، فإن الأمل معقود على أن تقوم الجمعية العامة للأمم المتحدة في المستقبل القريب بإصدار قرار يعلن يوم 21 أبريل يوما عالميا للرحمة . ومما لا شك فيه فإن تحقيق هذا المسعى ممكن لأنه يستند إلى رؤية انسانية وحضارية تنسجم مع ميثاق الأمم التحدة من جهة ، وتستجيب لحاجة المجتمعات البشرية اليوم للتراحم والتعايش والوئام في أمن وسلام . لكن يجب الإقرار بأن إخراج المبادرة رسميا على الصعيد الدولي يتطلب بذل جهود حثيثة من المجموعة الإسلامية ، وتنسيقا متواصلا ومحكما خلال مختلف مراحل متابعة هذا الملف على مستوى الأمم المتحدة ، ودعما متواصلا من المنظمات الدولية والقيادات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني النشيطة في مجال الحوارالحضاري والتعايش والسلام والأمن وحقوق الإنسان ، ومختلف الفاعلين والمؤثرين في وسائل الإعلام الجديد.
____________________
المحجوب بنسعيد/ الرباط