تبادل طرفا الصراع في السودان، الجيش و«الدعم السريع» الاتهامات بالمسؤولية عن إطلاق آلاف السجناء بعد هجمات شنها مسلحون على سجن «الهدى» شمال الخرطوم، وهو أكبر سجون السودان، فتمكن آلاف من نزلائه من الفرار، فيما أطلقت مئات السجينات من سجن «التائبات» في أم درمان، بعد تعرضه للقصف خلال اشتباكات في محيط مبنى الإذاعة والتلفزيون، وسجن «سوبا» شرق الخرطوم، الذي شهد تمردا عاصفا احتجاجا على انعدام الماء والطعام قبل أنباء عن تدخل قوة من «الدعم» فتحت الأبواب وأخرجت قرابة 6 آلاف سجين.
غير أن الحدث الذي أطلق اهتماما سياسيا شديدا، وأدى لموجة من الفزع والتحليلات السياسية، كان الهجوم على سجن «كوبر» المركزي، الواقع في الخرطوم بحري، من قبل قوات «الدعم» وقيل إن المقصود منه كان خطف قادة نظام الرئيس السابق المعزول عمر حسن البشير، الذي انكشف أنه كان موجودا حينها في مشفى «علياء» التابع للجيش، وأن بعض كبار المسؤولين السابقين موجودون في المشفى أيضا.
تضاربت بيانات الجيش السوداني حول الهجوم الآنف فبعد أن ذكر أحد التصريحات إن قوة الحماية المرابطة في سجن كوبر تمكنت من صد الهجوم، وأن الجيش قام بتعزيز الحراسة على السجن، تحسبا لهجمات أخرى، صدر بيان لاحق عن وزارة الداخلية قالت فيه إن قوات «الدعم السريع» اقتحمت سجن كوبر «مما تسبب في مقتل وجرح عدد من منسوبي إدارة السجون، واستطاعت إطلاق سراح جميع النزلاء».
وجدت هذه الرواية الأخيرة تأكيدا لها مع إطلاق مسؤول سابق كبير، هو أحمد هارون، شريط فيديو ألقى فيه بيانا صوتيا يقول فيه إنه غادر السجن مع مسؤولين سابقين آخرين وإنهم «سيوفرون الحماية لأنفسهم» وأشارت أنباء إلى أن بين المسؤولين الهاربين أيضا علي عثمان محمد طه وعوض أحمد الجاز.
أكثر ما أثار الجدل في تصريح هارون، كانت دعوته إلى «مساندة القوات المسلحة» ومطالبة منتسبي «الدعم السريع» بـ«الانخراط السريع مع إخوتهم في الجيش» ويعتبر هارون، الذي كان مساعدا للبشير، من أخطر رجال النظام كونه واحدا من أربعة مسؤولين أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمر توقيف بحقهم، بينهم البشير نفسه، ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين، وعلي كوشيب، أحد قادة ميليشيات الجنجويد، ووجهت إليهم تهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية في إقليم دارفور بين الأعوام 2003 و2007.
أعطى إطلاق سراح هارون، وتصريحه الآنف، أسبابا لجهات سياسية في السودان، أهمها «قوى الحرية والتغيير» لاعتبار ما يحصل «دليلا على أن النظام البائد يقف خلف الحرب في السودان» وأن ما يحصل من حرب حاليا يهدف إلى «عودة الطغمة الفاسدة المستبدة للحكم مجددا بأي شكل من الأشكال».
أدلى «الدعم السريع» بدلوه في حرب التحليلات، فاتهم مستشار سياسي لمحمد حمدان دقلو، «الاستخبارات العسكرية» بإطلاق سراح رموز النظام السابق «بالتنسيق مع الإسلاميين» وبذلك تلاقت تحليلات أهم القوى السياسية المدنية، من «الحرية والتغيير» إلى «تجمع المهنيين السودانيين» وكثير من الكتاب والناشطين، مع الدعاية السياسية لقوات «حميدتي».
من المؤسف أن تستسهل قوى سودانية تملك مصداقية سياسية كبيرة مثل «الحرية والتغيير» و«تجمع المهنيين» تقديم إجابات أيديولوجية على وقائع معقّدة ومتحركة تتهدد السودان كوطن وشعب وتاريخ، وألا تستغل مصداقيتها المذكورة في تركيز البوصلة الأساسية التي أعطتها شرعيتها الجماهيرية، وهي كونها ممثلة للقوى الطامحة لنظام مدني يعيد العسكر إلى ثكناتهم، ولمنظومة ديمقراطية تنتظم الاتجاهات السياسية كافة كي لا تكون سندا لمنظومة دكتاتورية جديدة، على شاكلة ما نراه في بلدان أخرى تعادي الإسلاميين ولكنّها تدخل البلاد في استعصاء تاريخي ودائرة مغلقة من العنف والفساد والإجرام.
واضح جدا من «حرب السجون» الدائرة أن المطلوب هو رفع درجة الفوضى والخراب إلى أقصاها، وأن تكتيكات «الدعم السريع» لإضعاف الجيش سياسيا تؤتي ثمارها، وفي الوقت الذي تنشغل القوى السياسية باستعادة تحليلاتها البائسة عن «عودة النظام البائد» والتخويف من الإسلاميين، تتجاهل أن الطرفين المتصارعين يجرّان البلاد إلى حرب أهلية لا يتبقى فيها يساريون ولا إسلاميون!
في الوقت الذي يقوم فيه البعض بحفر الخنادق الأيديولوجية ينهمك الطرفان العسكريان بإلحاق الفظائع الرهيبة بالسودانيين، وفي الوقت الذي تعمل دول العالم على إجلاء رعاياها، ويتأهب مئات آلاف السودانيين للنزوح واللجوء، وتمتد المعارك على مساحات واسعة، ويتحوّل الانقلاب العسكري على التسوية السياسية مع المدنيين إلى بوادر حرب أهليّة ستؤدي إلى أزمة إنسانية عالمية، ويحتمل أن تضم السودان إلى قائمة الدول العربية الفاشلة تاريخيا كما هو حال اليمن وسوريا واليمن.