الوسائل، الإكراهات، الأهداف ، والآليات
مدخل
إن إعمال التفكير في شروط ومتطلبات وضع استراتيجية ثقافية شاملة في الوطن العربي لابد أن يقود إلى التمعن الرصين في المشهد العربي الراهن، وذلك من أجل:
1. الوقوف على المقومات الموضوعية الكبيرة التي تتوفر عليها الأمة العربية، والممكن توظيفها لإنجاز إستراتيجية ثقافية متكاملة الجوانب ومتعددة الأبعاد في الوطن العربي؛
2. استعراض الاختلالات والإخفاقات المفارقة السائدة في السياق العربي والتي من شأنها عرقلة الجهود والمساعي الهادفة إلى تحويل هذا المشروع إلى واقع ملموس؛
3. استكناه التحديات التي يجب رفعها والرهانات التي ينبغي كسبها من أجل النجاح في بناء وتفعيل هذه الإستراتيجية؛
4. إبراز ماهية الاستراتيجية وتبيان مختلف ملامح العناصر المكونة لها؛
5. تحديد الآليات التي يمكن توسلها بغية ترجمة هذا المشروع إلى حقيقة وارية الذاة؛
6. إيضاح أهداف وغايات ومرامي الإستراتيجية المراد بلورتها؛
ونعمد فيما يلي إلى استبطان كل واحد من هذه الجوانب على حدة، محاولين قدر الإمكان إبراز مدى تعالقه وتأثيره ومفعوله على نجاعة وفعالية الإستراتيجية الثقافية العربية التي تتطلع النخب والفاعلون الثقافيون على حد سواء في كل الوطن العربي إلى رؤيتها وقد تجسدت على أرض الواقع.
مقومات الريادة المتوفرة لدى الأمة العربية
تتوفر الأمة العربية اليوم كما هو معلوم على موارد ضخمة وثروات هائلة تجعل بمقدورها ليس فقط أن تبلور وتطور وتفعل إستراتيجية ثقافية متعدد الأبعاد والجوانب ولكن أيضا أن تشكل فضاء جيوسياسيا وسوسيوثقافيا واقتصاديا لا يقل أهمية ولا ثقلا عن باقي التكتلات الإقليمية الكبرى عبر العالم.
ذلك أن الفضاء العربي يمتد على مساحة تزيد على 14 مليون كلم2 أي ما يربو على 10% من مساحة العالم. ويكتنف أكثر من 400 مليون نسمة أي نسبة 9,4% من ساكنة العالم.
ويمتلك 65% من الاحتياطي العالمي من النفط . وينتج 26% من إجمالي الإنتاج العالمي، إضافة إلى 23% من مخزون الفسفات على مستوى العالم. كما توفرله سواحله الممتدة على 22,7 ألف كلم ، 2,6% من الثروة السمكية العالمية . فضلا عن امتلاكه لما يزيد على 200 مليون رأس من المواشي. ناهيك عن ملايين الهكتارات الصالحة لكل أنواع الزراعة.
هذه الثروة الضخمة ، وهذا الحيز الجغرافي الشاسع المتصل، وهذه الكتلة البشرية المعتبرة المتماهية عرقيا ودينيا وثقافيا، تشكل مجتمعة مقومات مثالية كافية ليس لوضع استراتيجية ثقافية عربية ناجعة وحسب، بل لتسنم الأمة موقع الصدارة والريادة إقليميا ودوليا. إلا أن هذه المكانة لم تفلح الأمة العربية، مع الأسف، في تبوئها، وذلك نتيجة لمجموعة من الاختلالات والإخفاقات التي ما انفكت تعيق مسيرتها نحو النماء الاقتصادي والتطور الاجتماعي والازدهار الثقافي والرقي الفكري.
الاختلالات والإخفاقات والعراقيل المترتبة عنها
على الرغم مما تتوفر عليه الأمة العربية من المقومات الضرورية لتحقيق التميز، واحتلال موقع الصدارة على الساحة الدولية، فإن هذه الأمة وعلى نحو مفارق، تعاني على الصعيد الثقافي، إخفاقات عديدة مربكة تبعث على الحيرة والتعجب، بل وعلى الغضب . وتتمثل هذه الاختلالات والإخفاقات في ما يلي:
أ. تفشي الأمية على نطاق واسع بحيث يصل معدل نسبتها 40% أي حوالي ضعف المتوسط العالمي (تقرير اليونسكو 2008)؛
ب. تدني نسبة التحاق الأطفال بالتعليم ما قبل المدرسي (من 1 إلى 74%) حسب البلدان العربية؛
ج. انخفاض نسبة التمدرس في جل الأقطار العربية،
إذ لا تتجاوز 75% إلا في عدد قليل منها (تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية: والتقرير الدولي لمتابعة برنامج التعليم EPT)، في حين تبلغ نسبة التمدرس 100% في بعض البلدان الإفريقية الفقيرة مثل ملاوي وبوروندي !!.
وتوضح تقارير أخرى لليونسكو بهذا الصدد أن البلدان العربية تأتي إجمالا في مؤخرة الأمم فيما يتصل بعملية التمدرس.
وتظهر نفس التقارير أن الرصيد العربي من الإنتاج العالمي لكتب الأطفال لا يتجاوز 1% رغم وجود 35 مليون طفل عربي متعطشين للقراءة. وتبرز ذات التقارير أن معدل ما يقرأه الطفل العربي هو ربع صفحة في السنة، في حين يقرأ الطفل في الغرب 50 كتابا في السنة.
د. تدني مستوى القراءة والتأليف والترجمة والبحث العلمي.
بهذا الصدد تبين تقارير اليونسكو لسنوات 1991 و2004 أن المواطن العربي لا يقرأ في المعدل إلا 6 دقائق في السنة.
كما أظهرت إحصائيات أخرى أن كل مليون عربي يقرؤون 30 كتابا في السنة، بينما أوضح استطلاع أجري مؤخرا في العاصمة الصينية أن المواطن الصيني يقرأ في المتوسط 5 كتب في السنة.
والجدير بالذكر في هذا المضمار أن ما تنتجه الدول العربية مجتمعة من الكتب لا يزيد على 10 آلاف كتاب في السنة أي 1،1% مما ينتجه العالم إجمالا، بينما يؤلف في فلسطين المحتلة سنويا 6866 كتابا، كما أن المعدل الإجمالي للبحوث التي تنشر سنويا في العالم العربي لا يتجاوز 140.000 بحثا محكما مقابل 138.881 بحثا سنويا في الأرض المحتلة.
ومرد هذا أساسا إلى كون البلدان العربية مجتمعة لا تخصص للإنفاق على البحث العلمي سوى3،0% من ناتجها القومي الإجمالي في حين تخصص له الدول المتقدمة من 2,5% إلى 3% من ناتجها القومي الإجمالي ويخصص له الكيان الصهيوني 4,7%.
وبخصوص مكانة الجامعات العربية بالنسبة للجامعات الأجنبية المتميزة، فقد أظهر تقرير هينة الترتيب الأكاديمي للجامعات العالمية لسنة 2011 – 2012. (the Acedemic ranking of world Universities) أنه لا توجد جامعة عربية واحدة من بين الـ100 جامعة المتميزة عبر العالم. بينما توجد من ضمنها 4 جامعات إسرائيلية وجامعات صينية وهندية وبرازيلية وغيرها.
وبخصوص الترجمة فإن العالم العربي بكامله لا يترجم سنويا سوى 330 كتابا أي خمس ما يترجمه اليونان في السنة. وحسب بعض إصدارات مركز القاهرة الأعلى للثقافة فإن كل الكتب التي ترجمت في العالم العربي منذ عهد الخليفة العباسي المأمون، في القرن الثامن ميلادي إلى اليوم، لا تتجاوز 100 ألف كتاب أي ما يعادل ما تترجمه إسبانيا في السنة الواحدة.
وفي سياق متصل يفيد مؤشر منظمة اليونسكو الذي يعتبر مرجعا لإحصاءات الترجمة، أن عدد الكتب التي ترجمت إلى اللغة العربية من عام 1973 حتى عام 2000 هو 6881 كتابا أي ما يماثل عدد الكتب التي تمت ترجمتها إلى اللغة اللوتيانية التي لا يتكلمها إلا 4 ملايين نسمة!!.
وبخصوص نسبة ولوج خدمة الانترنت على مستوى الفضاء العربي فإنه يجدر التنويه إلى أن رغم كون العرب يمثلون حوالي 9,4 % من سكان الكرة الأرضية، ويحتلون 10% من مساحة العالم ويمتلكون ثروات هائلة، فإن اللغة العربية لا تمثل على شبكة الانترنت إلا 0,5% من مجموع اللغات الحاضرة على هذه الشبكة. وذلك مقابل 47% للانجليزية و9% للصينية و8% لليابانية و6% للألمانية و4% لكل من الفرنسية والإسبانية.
الواقع أن هذه المعطيات الصادمة والمحيرة تنبئ عن عمق الاختلالات والإخفاقات التي يعاني منها العالم العربي على الصعيد الثقافي الصرف وذلك بقطع النظر عن الأصعدة الأخرى التي لسنا بصدد الحديث عنها في هذا المقام.
ولا ريب أن هذه الأوضاع المزرية التي تسود في عالمنا العربي تستدعي الإسراع في بلورة وتنفيذ إستراتيجية ثقافية كفيلة بأن تجعل الأمة العربية تتجاوز الأوضاع الكارثية التي تعاني منها منذ ردح طويل من الزمن والتي تهدد أمنها الثقافي وتضعف مكانتها بين الأمم.
التحديات الواجب رفعها والرهانات اللازم كسبها بغية وضع الإستراتيجية المنشودة
بالإضافة إلى الإكراهات والاختلالات التي أومأنا إلى أهمها فيما تقدم، فإن ثمة تحديات معيقة خليقة بأن تشكل هي الأخرى عقبات كأداء في وجه إنجاز الإستراتيجية الثقافية العربية التي لم يعد من المستساغ ولا من الحزم التغاضي عنها وتجاهل الضرورة الملحة التي تكتسيها في سياق التنافس المحموم بين الأمم من أجل تحقيق السيطرة وبسط النفوذ.
كما أن هناك رهانات لابد للأمة العربية من كسبها ليس فقط للحفاظ على مكانتها بين الأمم ولكن لصيانة أمنها الثقافي وحماية هويتها وخصوصيتها الحضارية كما ذكرنا.
أ. التحديات الواجب رفعها
هناك تحديات لا سبيل إلى وضع إستراتيجية ثقافية عربية ما لم يتم رفعها، ولعل من أهمها:
- سعي الكيان الصهيوني الحثيث إلى تهويد الأراضي الفلسطينية وتقليص الوجود العربي بها وتفكيك المؤسسات العربية وتغيير ملامح التراث العربي والموروث الثقافي والفكري الإسلامي والمسيحي في الأراضي المحتلة؛
- تغلغل إيران في الوطن العربي وتداعياته على تعايش الديانات والمذاهب والطوائف وعلى تماسك النسيج الاجتماعي في المنطقة العربية المصاقبة لهذا البلد؛
- اتساع نطاق التشدد الديني المتطرف وتفاقم أنشطة الجماعات الإرهابية التكفيرية وعصابات الأشرار التي تمتهن الاتجار بالأسلحة والمخدرات واختطاف الرهائن والتي تنشط ضمن الفضاء العربي؛
- استفحال الإسلاموفوبيا والعنصرية المعادية للعرب في جل الدول الغربية نتيجة للفظائع التي تمارسها الجماعات الجهادية المتطرفة؛
- استهداف ظاهرة العولمة في بعدها الثقافي للخصوصية الثقافية والروحية للأمة العربية ، وصولا إلى استلابها الثقافي وإلى الحد من إشعاعها الفكري وإلى استتباعها الاقتصادي والسياسي؛
- غياب الدمقرطة وضعف الثقافة المواطنية وتغول أصحاب العقليات القروسطوية المعادية للعقلانية والحداثة وحرية التفكير واستقلال الرأي، والمناهضة لتمكين المرأة وإشراكها في تدبير الشأن العام وإسهامها في صنع القرار وصياغة المستقبل.
ب. الرهانات اللازم كسبها
وتتمثل هذه الرهانات أساسا في:
- تضييق نطاق الأمية الأبجدية والوظيفية والحضارية؛
- تعميم التمدرس وخاصة تمدرس البنات؛
- إضعاف نفوذ الفكر الخرافي المحارب للعقلانية والمتخاصم مع المنطق والروح النقدية والداعي إلى اليقينية المطلقة وأحادية النظرة والتعصب الأعمى المفضي إلى التطرف والإرهاب والاحتراب المدمر؛
- ردم الهوة الرقمية بين المجتمعات العربية والمجتمعات المتطورة؛
- قيام مجتمعات واقتصادات المعرفة من خلال تعزيز البحث العلمي ودفع حركة التأليف والترجمة وتطوير العلوم والآداب والفنون والثقافة في كل تجلياتها وإبعادها؛
- تعزيز التعاون والتنسيق العربي في مجال التعليم العالي والبحث العلمي بوجه خاص؛
- الارتقاء بالثقافة العربية وتقوية إشعاعها عبر العالم؛
- زيادة تحديث ووظيفية الإعلام العربي في مختلف تمظهراته.
ماهية الاستراتيجية الثقافية العربية، أهدافها وآلياتها
أ. ماهية الاسترتيجية الثقافية العربية
إن الاستراتيجية الثقافية العربية التي باتت الأمة العربية، نخبا وجماهير، تتوق إلى وضعها حيز التنفيذ على جناح السرعة ، باعتبارها السبيل الأمثل لخروج الأمة من وضعية البيات الشتوي الذي تعاني منه منذ ردح طويل من الزمن، تتمثل في حزمة من الإجراءات ومجموعة من الإنجازات والأداءات تطال مختلف جوانب ومناحي الحياة ضمن السياق العربي وتتجسد هذه الإجراءات والإنجازات في ما يلي:
- العناية الفائقة بأدب الطفل بما يقتضيه من كتب ومجلات ووسائل تسلية وترقية وتربية وتوجيه وتحصين ضد الفكر الهدام وضد التعصب والتطرف ،وصولا إلى إعداد النشء على الوجه الأكمل لحياة متمدنة ، يسودها التسامح والقبول بالآخر؛
- العمل على تطوير الفنون الجميلة وتشجيع الإقبال عليها، ويتعلق الأمر بمختلف ألوان الآداب والمسرح والسينما والموسيقى والرقص والفلكلور والأهازيج الشعبية والفنون التشكيلية والعمارة وفنون الطهي والطرز والخياطة والألعاب التقليدية؛
- القيام بتنظيم مهرجانات حول الشعر والرقص بمختلف أنواعه وفن الحكي وألعاب المجتمع والفروسية وسباق الهجن وغير ذلك من الفنون الشعبية؛
- العمل على تكثيف أعمال الترجمة من وإلى اللغة العربية بغية نقل المزيد من أمهات الكتب العربية إلى اللغات الأجنبية ونفائس الكتب الأجنبية حول مختلف المعارف العلمية الحديثة إلى اللغة العربية. على أن يصاحب هذه الجهود المزيد من طباعة ونشر وتوزيع الكتب والمطبوعات ومختلف الإصدارات. إضافة إلى رفع وتيرة معارض الكتب العربية عبر الفضائين العربي والدولي؛
- تخصيص جوائز تحفيزية للفاعلين الثقافيين المتميزين في مختلف المجالات الثقافية (التأليف، الفنون الجميلة، السينما، المسرح، الاختراعات التقنية في الحقل الثقافي)؛
- تنظيم المزيد من الندوات والملتقيات حول تقييم وتقويم الأوضاع الثقافية في الوطن العربي وسبل النهوض بها؛
- الاهتمام بالمخطوطات من حيث إحصاؤها وتطوير تقنيات ترميمها وصيانتها وتحقيقها وطباعتها ونشرها وتوزيعها والسعي إلى ترجمة أهمها؛
- العناية بالكنوز البشرية والتراث المادي واللامادي والآثار والمآثر الشعبية المتميزة؛
- تفعيل برنامج الاحتفال السنوي بالعواصم الثقافية العربية وتوظيفه لتعريف العالم العربي بثقافته وإطلاع العالم الخارجي على الموروث الثقافي الهائل الذي تتوفر عليه الأمة العربية؛
- خلق فضائيات عربية مختصة في بث الثقافة العربية سواء منها العالمة أوالشعبية، والتعريف بمختلف جوانبها عبر العالم؛
- العمل الممنهج على تقوية إشعاع اللغة العربية من خلال تطوير وتحديث تقنيات تدريسها لغير الناطقين بها وتحبيبها لغير العرب من خلال الموسيقى والفنون الخطية (أرابسك) مع العمل على توسيع نطاق نشرها عبر شبكة متنامية من المراكز الثقافية والمدارس الخاصة عبر العالم . ولاسيما في أماكن تواجد الجاليات العربية وفي البلدان المصاقبة للعالم العربي وتلك التي تستعمل الحرف العربي، واتخاذ ما يلزم من تدابير وتعبئة كل الوسائل من أجل توسيع استعمال اللغة العربية على شبكة الانترنت؛
- بلورة برامج ثقافية وعلمية وفنية رفيعة المستوى للتثقيف والتوجيه والارتقاء بالذائقة الفنية، يتم بثها عن طريق استعمال التقنيات الجديدة للإعلام والتواصل؛
- العمل على تكوين الخبرات والمهارات العالية في مجال رقمنة المعطيات والصناعة اللسانية وتقنيات تعددية الوسائط (Multi-media) وصناعة البرامج (logiciels) فضلا عن تشجيع البحث العلمي في مجالات الثقافة التطبيقية وتوسلها في صناعة المحتويات الثقافية والتربوية والترفيهية وكذا استعمال اللغة العربية في ميدان الصناعات الرقمية . كما ينبغي العمل على إنشاء محطة تعنى خصيصا بالشأن الثقافي في مختلف أبعاده والاستفادة من الإمكانات الفنية التي يتيحها القمر الاصطناعي العربي (arabsat) وغيره من الأقمارالإصطناعية الأخرى لبث الثقافة العربية والتعريف بها على أوسع نطاق.
هذه بإيجاز هي ماهية الإستراتيجية الثقافية العربية التي ،كما أشرنا آنفا ، قد آن الأوان لترجمتها إلى واقع قائم.
ب. أهداف الاستراتيجية
أما الأهداف الأساسية المتوخاة من تضافر وتفعيل مختلف الجوانب التي تقوم عليها هذه الاستراتيجية، فإنها تتمثل في شقين أساسيين أولهما هو السعي إلى الانتقال بالإنسان العربي على نحو متدرج صعودا من وضع الرعية السالبة إلى وضع المواطن المثقف المتنور، المتمدن والمؤثر في محيطه، مواطن واع لمسؤولياته تجاه وطنه وأمته، متصالح مع خصوصيته الحضارية والدينية، غيور على هويته الثقافية، وفي ذات الوقت منفتح ومتسامح وقابل للآخر ومتفاعل مع التطور الحضاري للبشرية.
باختصار مواطن يجمع بين متطلبات العصرنة في كل تجلياتها ومقتضيات الأصالة في كل اشتراطاتها الإيجابية.
والشق الثاني هو تهيئة الظروف الملائمة لقيام مجتمعات عربية متنورة ومنفتحة وعلى درجة كبيرة من التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري والعلمي والتكنولوجي، تسود فيها الحكامة الحسنة والعدالة الاجتماعية وتنعم بالسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي ولها إشعاع ثقافي ونفوذ سياسي ووزن جيواستراتيجي وإسهام حضاري على الساحة الدولية.
ج. آليات الاستراتيجية
أما الآليات التي يمكن أن يتم توسلها لتنفيذ هذه الاستراتيجية، والفاعلون الذين تقع على عواتقهم مسؤولية تفعيلها ومواكبتها وإنجاحها في بلوغ أهدافها وتحقيق أغراضها، فهم بالإضافة إلى السلطات الرسمية المختصة، فعاليات المجتمع المدني المهتمة بإنتاج المعارف والنهوض بالثقافة وترقية الفنون وتشجيع الابتكار واستدراج الخلق والإبداع. ويتعلق الأمر على وجه الخصوص بالهيآت الفكرية والعلمية والثقافية كالجمعيات والوداديات والرابطات والأندية والتعاونيات والمنتديات ونقابات المدرسين والصحفيين والطلاب واتحادات السينمائيين والفنانين والكتاب وغيرهم من المؤسسات والكيانات المهتمة بإنتاج المعارف والفنون وترقية الثقافة والفكر وخلق الظروف الملائمة للنهوض الاقتصادي والسوسيوثقافي للمجتمعات العربية والارتقاء بها إلى مصاف الأمم المتقدمة.
ولا ريب أن جانبا كبيرا من المسؤولية في بلورة إستراتيجية ثقافية عربية ناجعة ومواكبتها وتفعيلها يقع بالدرجة الأولى على كاهل الطبقة المثقفة العربية وتحديدا الاتحادات العربية للأدباء و الكتاب . وذلك سعيا إلى انتشال الأمة العربية ،" أمة إقرأ"، مما يرمي أصحا ب الفكر التكفيري ومن يقف وراءهم إلى إبقاءها فيه من تكلس ثقافي و جمود فكري و تخلف حضاري قصد الحيلولة دون تحقيق ما تطمح إليه هذه الأمة من انعتاق و حداثة و تقدم و ارتقاء.
خلاصة
وخلاصة القول أنه ليس هناك أدنى شك في أن السبيل الأوحد إلى تحقيق هذه الطموحات المشروعة و الملحة هو الإسراع دون توان و لا تلكؤ إلى بلورة و تنفيذ الإستراتيجية الثقافية التي بينا في ما تقدم ، و بما يلزم من تفصيل، مختلف جوانبها و أبعادها و آلياتها و أهدافها. وبدون هكذا إستراتيجية ، لا يمكن للأمة العربية منافسة الأمم الأخرى ولا مزاحمتها على احتلال موقع الصدارة ضمن المشهد الدولي الذي يجتاحه إعصار عولمة ساحقة لا مكان و لا مكانة فيها للأمم الضعيفة المتخاذلة.
وادان 20 أغسطس 2016
د. محمد الأمين ولد الكتاب