استدعت الأحداث السياسية الأخيرة المتصلة بمراحل التحضير و خوض الانتخابات التشريعية والبلدية بمقاطعة مال الحاجة إلى استعراض دلالات و معاني بعض المراحل التاريخية الهامة التي شكلت القصة المؤسسة لمدينة مال و مجالها الحضري. و قد مثل تشييد سد مال الكبير و تأسيس المدينة الحالية البنية التحتية التي قادت إلى إقامة كيان حضري ، شكل في وقت لاحق، نواة للمركز الإداري ثم بعد ذلك للمقاطعة في شكلها الحالي .
و تظهر مطالعة المراجع التاريخية وقوع اختيار الإدارة الاستعمارية على مال كأول مركز إداري في ولاية لبراكنة منذ أوائل القرن العشرين بعد أن وصله رائد الاستعمار الفرنسي آنذاك Xavier Cappolani كزافيه كابولاني مطلع عام
1903 ، حيث استقر به مدة زمنية و أقام فيه حامية عسكرية فرنسية منذ 1 فبراير 1904.
وقد اختار هضبة رملية وسط بحيرة مال تحيط بها المياه في فصل الخريف مقرا له . وسميت تلك الهضبة فيما بعد"زيرت انصاره". ثم عرف مال بعد ذلك أحداثا متلاحقة لعب فيها العديد من رجالاته أدوارا مختلفة لا يتسع المجال لذكرها. غير أن أهم حدث على الإطلاق تمثل في تشييد السد الكبير " لقليگ" مع مطلع الستينات بمبادرة وتمويل من الزعيم الكبير الحاج محمد الإمام بن محمد أحمد الذي مثل أحد أكبر رواد المشهد السياسي الإفريقي في زمنه إلى جانب زعماء الاشتراكية الدولية الإفريقية " كسينغور و الأمين كي" و أكثرهم تأثيرا في الساحة الغرب إفريقية ، في الوقت الذي كان فيه قائد قاطرة المشهد السياسي الموريتاني بدون منازع ، فهو الذي اختار النائب أحمدو ولد حرمة و رشحه و دعمه ، و هو الذي دعم المختار ولد داداه و ابتعثه لإكمال دراسته في فرنسا. و لم يكن من قبيل المصادفة أن يقع الاختيار على الحاج محمد الإمام كمستشار عام عن موريتانيا في المجلس الكبير لإفريقيا الغربية الفرنسية و أن يتكرر ذكره في التقارير بإرشيف المستعمر الفرنسي وفي مذكرات الرئيس المؤسس المرحوم الأستاذ المختار ولد داداه . كما كتب عنه المختار الحسن في رحلته للحج وكتب عنه كذلك الأديب الكبير محمد ولد ابنو ولد أحمدين في ديوانه و الأديب همام إضافة إلى العديد مما تناقلته الروايات الشفهية و القصائد الشعرية الشعبية والفصيحة التي تناولت جزءا من حياته.
لم يعرف مركز مال منذ تأسيس سده في بداية الستينات أي استثمارات عمومية تذكر على الرغم مما يزخر به من موارد طبيعية ومن ثقل ديموغرافي. كما أدت عزلته إلى إقصاء أبنائه من مراكز القرار و القيادة و إلى سوء تمثيله في هيئات إتخاذ القرار رغم إنحدار نخبة من خيرة أطر البلاد منه ،مشهود لهم بالتميز و الريادة في مجالاتهم.
و في هذا السياق، لابد من الإشارة إلى أن الرئيس المختار ولد داداه عندما فكر في تأميم شركتي " ميفرما وصوميما" عهد بذلك إلى أحد أبناء مال وهو المهندس إسماعيل ولد أعمر حيث باشر إجراءات تأسيس شركة سنيم لتكون نواة لهذا التأميم وهو ما حصل على أكمل وجه .
و كان أول استثمار حقيقي لصالح ساكنة مال هو تشييد الطريق المعبد شكار ـ مال الذي فك العزلة عن هذا الحيز الجغرافي و البشري الهام .ثم جاء القرار التاريخي و المصيري و الأهم بالنسبة للساكنة في العهدة الأولى من حكم فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني و هو ترقية مركز مال إلى مقاطعة ، و قد برهن ذلك القرار على عمق إيمان فخامته بقيم العدل والإنصاف فعلاً لا مجرد قولْ ، ومكنت هذه الخطوة مواطني هذه المنطقة من مثلث الأمل من الحصول على تمثيل انتخابي أحسن، و فرص مشاركة أفضل .
و من المؤسف أن تواجه الأهداف النبيلة لهذا الإنجاز بخطط لاختطاف تلك الأهداف و إجهاضها بحيث يحال بين الناس و بين هدفهم المنشود و هو انتخاب من يعبر عن إرادتهم الحقيقية الناصعة في أن يكون لهم ممثل في البرلمان يلامس تطلعاتهم و يجسد إرادتهم و يمكن أن يفتح لكل واحد فسحة من الأمل .
وقد أظهرت الاستشارات التي قامت بها بعثات الحزب المتعاقبة بروز شبه إجماع على ترشيح الدكتور سيدي إبراهيم ولد محمد ولد أحمد للنيابيات عن دائرة مال، كما أن التسريبات الواصلة إلى الراي العام عن ترشيحات الحزب أكدت اعتماد هذا الترشيح و صادف ذاك ارتياح الساكنة و الوسط السياسي لمطابقته للسير المنطقي للتحضيرات ، إلا أن المفاجأة الكبيرة التي حِيكت في اللحظة الأخيرة صعقت الجميع من مراقبين و مواطنين . و قد أجمع كل المراقبين على ما شابها من سوء تقديرٍ وظلمٍ .
غير أن رد فعل الدكتور لم يخرج عن ما عهد فيه من حكمة و تبصر و تقدير لحجم المسؤولية ، فاختار أن يقابل هذا الإقصاء بالانسجام ودعم لوائح حزب الإنصاف بكل ما أوتي من قوة في موقف تاريخي منسق مع حنكته السياسية و ميله لإيثار الصالح العام لحزب الإنصاف و لدعم برنامج فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ، حيث دخل معترك الحملة الانتخابية من بابها الواسع ليكون بذلك أهم فاعل سياسي على مستوى مقاطعة مال يشارك في الحملة الانتخابية البلدية والتشريعية من خلال تعبئة حاضنته الاجتماعية وقاعدته الشعبية العريضة داخل المقاطعة وخارجها من الأنصار والحلفاء والأصدقاء . وقد بذل في سبيل ذلك مجهودا و سخر إمكانيات هائلة تمثلت في تمويل ذاتي وزعه على بعض الفاعلين السياسيين وأنفقه لنقل الناخبين وضيافتهم والإشراف على تصويتهم لصالح مرشحي حزبنا حزب الإنصاف بمقاطعة مال. و قد تم كل ذلك بتنسيق تام مع معالي الوزير المختار ولد اجاي و بمباركة و تشجيع منه، فقد شكل هذا الأخ الكريم عامل ثقة و تلطيف و تخفيف لوطئة الإقصاء و الظلم بإيجابيته المعهودة و حضوره الكريم ،
إلا أن اللافت للانتباه هو تجاهل الحزب و الحكومة لكل هذه الجهود والتضحيات التي قادت إلى فوز حزب الإنصاف في الانتخابات البلدية والتشريعية في الشوط الأول على مستوى مقاطعة مال، حيث لم يحصد أطر مدينة مال إلا التجاهل و الإقصاء.
ولقد أظهرت بعض الدوائر نزعة غير متوقعة إلى الشرائحية والمحسوبية البغيضة التي طالما حذر منها فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في أكثر من مناسبة ، و مثلت هذه النزعة انحرافا كبيرا لارتكازها على محاولة تحريف ساذجة ومؤسفة – عن غير قصد ربما - لمرتكزات عهد الإنصاف وتصويره كإحلالِ لمقصيين مكان مقصيين وتبادل هامشي لمواقع يقود في النهاية إلى ضمان أن يظل هناك مقصيون و مهمشون على الدوام خلافا لطموحات و مرامي برنامج فخامة رئيس الجمهورية.
وفي الحالة الماثلة، فإن المعادلة الخاطئة كانت مفرطة في سوء التقدير، حيث تم الإقصاء على نحو عبثي لصالح إنتاج مسرحية رديئة الإخراج لا تستجيب إلا للنزعات المرضية المستمدة من سيكولوجية الغلبة بالمفهوم <<الخلدوني>>، حيث يندفع المغلوب في تقليد غطرسة وجبروت الغالب دون أن يسعفه في ذلك رادع من ثقافة أو تربية، وفي ظل غياب تام لرقيب الحكامة الرشيدة المبنية على اعتبارات المصلحة العامة والحق والإنصاف .
لكن هذه المعادلة لا تستقيم .
و كما قال عبد الرحمن البرعي:
متى يسـتقيم الظـــل و العــود أعوج و هل ذهبُ صرف يساويه بهرج؟
لا يستقيم طبعا ......
و لا يتساوى.....