تقدم اثنا عشر عضوا من الكونغرس الأمريكي في 9 أيلول/ سبتمبر 2016 بمشروع إلى الكونغرس الأمريكي، وقد تمت إحالته إلى لجنة الشؤون الخارجية، وفيه عبر هؤلاء عن «تفهم الكونغرس بأن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي يجب أن يدعموا جمهورية العراق وشعبها للاعتراف في محافظة في منطقة سهل نينوى، بما يتفق مع التعابير القانونية لتقرير المصير من قبل شعوبها الأصلية». عزز هذا المشروع مرة أخرى حقيقة أن الجميع يسعى للإفادة من لحظة تنظيم الدولة من اجل اعادة رسم خرائط النفوذ، ومحاولة تكريس أمر واقع بناء على علاقات القوة المختلة في العراق اليوم، مع تواطؤ دولي أصبح واضحا!
لقد استند مشروع القرار المقترح إلى قرار سابق صدر عن مجلس الوزراء العراقي في 21 كانون الأول/ يناير 2014 بالموافقة، من حيث المبدأ، على تحويل قضاء سهل نينوى التابع لمحافظة نينوى، إلى محافظة. وقد أثار هذا القرار جدلا واسعا حينها، واتهم رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي بالتلاعب بالحدود الإدارية للمحافظات لأسباب سياسية (طبعا يتحدث أعضاء دولة القانون الآن عن مشروع قرار الكونغرس بوصفه مؤامرة لتقسيم العراق!).
لقد أشار مشروع القرار المقترح إلى أن سهل نينوى كان موطنا «لأجداد وأسلاف الآشوريين الكلدانيين السريانيين المسيحيين والايزيديين والعرب السنة والشيعة والأكراد والشبك والتركمان والصابئة المندائيين وغيرهم»، ولكنه عاد في موضع آخر لتحديد «مجتمعات السكان الأصليين» في سهل نينوى على «المسيحيين الأشوريين والكلدانيين والسريان، والايزيديين وغيرهم» ! وأن لهؤلاء الحق في «تقرير المصير» داخل البنية الاتحادية لجمهورية العراق! ويبدو واضحا من النص، تعمد التركيز على فئات محددة من السكان بوصفهم «السكان الأصليين»، مع إشارة مبهمة عن «الآخرين»، فيما يتعلق بتقرير المصير، تكشف عن الأغراض الكامنة وراء هذا القرار!
بداية لا بد من الاعتراف بأن الأقليات العراقية بعد 2003، على اختلاف أطيافها، كانت الأكثر استهدافا في عمليات التهجير القسري. وإذا كان البعد الايديولوجي للجماعات المسلحة عاملا رئيسيا في تسويغ هذا الاستهداف، فإن العامل السياسي، والصراع على الأرض، لم يكونا غائبين عن عمليات الاستهداف هذه. فقد اضطر المسيحيون واليزيديون والشبك والصابئة إلى النزوح بشكل كبير، سواء بسبب استهدافهم المباشر بوصفهم أقليات دينية او إثنية أو كليهما، أو كنتيجة لاستخدامهم أوراقا في إطار الصراع الأكبر بين الجماعات العراقية الرئيسية. ولا يمكن الوقوف بشكل دقيق على حجم هذا النزوح بسبب عدم وجود إحصاءات موثوقة من جهة، وبسبب من الاستخدام السياسي لهذه الأرقام، سواء فيما يتعلق بحجم الاقليات الديمغرافي أساسا، أو حجم النزوح من جهة أخرى. لكن النتيجة النهائية أن هذا النزوح وما نتج عنه من تغيرات اجتماعية وديمغرافية وجغرافية أحدثت تصدعات حقيقية في بنية المجتمع العراقي التاريخية. وقد جاءت سيطرة تنظيم الدولة على الموصل في حزيران 2014 لتفاقم الوضع على نحو غير مسبوق، فقد كانت هناك عمليات إبادة جماعية للأقلية اليزيدية، وعمليات تهجير قسري شبه جماعي للأقليات المسيحية والشبكية والشيعية في محافظة نينوى.
ورغم حجم المأساة، فانه لا يمكن إغفال الإستخدام السياسي لقضية نزوح الأقليات، تحديدا فيما يتعلق بالدعوة إلى حكم ذاتي، أو محافظة، أو إقليم في مناطق سهل نينوى. إن هذا الإستخدام يرتبط بالصراع القائم على الأرض بين إقليم كردستان والحكومة المركزية حول ما يعرف بـ «المناطق المتنازع عليها». وعلى الرغم من أن قانون إدارة الدولة الصادر في عام 2004، الذي ابتدع تعبير المناطق المتنازع عليها، أو الدستور العراقي 2005، لم يشيرا مطلقا إلى المناطق المشمولة بهذا التعبير، وبالتالي تركت المسألة لتقررها علاقات القوة! فان المذكرة التي أصدرها السفير ستيفان دي ميستورا رئيس بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) حول ما أسماه «الحدود الداخلية المتنازع عليها» في العام 2008، ذكرت أقضية عقرة والحمدانية ومخمور التابعة لمحافظة نينوى، ضمن المناطق التي حللتها المذكرة بوصفها مناطق متنازعا عليها. كما أشار التقرير إلى أقضية تلعفر والشيخان وتلكيف وسنجار التابعة لمحافظة نينوى أيضا، التي كان يفترض أن يتم تحليلها ضمن المرحلة الثانية، لكن دي ميستورا ثم بعثة الامم المتحدة لاحقا لم تستمر في محاولتها تلك!
لقد توالت الدعوات حول إنشاء كيان مسيحي في منطقة سهل نينوى منذ 2004. حينما دعا سركيس آغاجان مامندو، وزير المالية المسيحي في حكومة إقليم كردستان، إلى منح المسيحيين حكما ذاتيا في منطقة سهل نينوى. وفي العام التالي دعا المؤتمر الآشوري العام، الذي عقد مؤتمره التأسيسي في آب/ أغسطس 2005، إلى ما اسماه «فدرالية اشورية في سهل نينوى وسائر مناطق تواجد شعبنا التاريخية»! وفي عام 2010 تحدث الرئيس العراقي جلال الطالباني في حوار مع قناة «فرانس 24» عن عدم معارضته تشكيل محافظة في منطقة شمال الموصل وشرقها، أي منطقة سهل نينوى، ذي الأكثرية المسيحية، في إطار ما أسماه «الحكم المحلي»؛ وهو ما أيدته الحركة الديمقراطية الآشورية (تأست عام 1979) والمجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري (تأسس عام 2007 بدعم كردي لمواجهة الحركة الديمقراطية الآشورية) بالدعوة إلى «استحداث محافظة في سهل نينوى، على أساس مكون جغرافي»، أو حكم الذاتي «لمنطقة سهل نينوى بعد استحداث محافظة خاصة بها… وان تتقاسم سلطات الحكم الذاتي بموجب قانون الادارات المحلية حسب نسب السكان لكل وحدة ادارية من العرب والكرد والايزيديين والشبك وابناء شعبنا الكلداني السرياني الاشوري».
واذا ما كانت دعوات المؤتمر الآشوري العام، وهو حركة قومية راديكالية، تستعيد مطلبا قديما للأشوريين في العراق يعود إلى ثلاثينات القرن المنصرم، وتتجاوز مطالبهم مناطق سهل نينوى لتشمل مناطق تابعة لأقليم كردستان، فان دعوات الطرفين الآخرين (الحركة الديمقراطية الآشورية والمجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري)، على الرغم من الاختلافات بينها، ترتبط بشكل مباشر بالاستراتيجية الكردية وطموحاتها المعلنة للاستحواذ على المناطق المتنازع عليها فيما تعلق بوضع «سهل نينوى»، بسبب من طبيعة العلاقات العضوية التي تربطهما بالحزب الديمقراطي الكردستاني. فالدعوة تنحصر عندهما في مناطق سهل نينوى: الحمدانية وتلكيف والشيخان، ولا تتجاوزها إلى مناطق اخرى تتبع الإقليم. وتقوم الاستراتيجية الكردية على دعم مشروع «سهل نينوى» من اجل دفع المسيحيين إلى الاستفتاء لاحقا للانضمام إلى إقليم كردستان في مقابل الحصول على «الحكم الذاتي» لمناطقهم.
بعيدا عن سرديات الحق التاريخي، وبعيدا عن الشعارات المتعلقة بتقرير المصير، لا يمكن إغفال عاملين حاسمين في هذ الصراع على الأرض في سهل نينوى، يتعلق الأول بالنفط، والثاني بالخرائط المستقبلية للنفوذ، لاسيما وأن الدعوات الصريحة، والمتكررة، حول استقلال إقليم كردستان العراق، تبقى غير قابلة للتحقق على المدى القصير، في ظل الصراع بين السليمانية وأربيل. مع التذكير أن محاولة إعادة رسم الخرائط لا تتعلق بالجانب الكردي وحده، فهناك دعوات شيعية صريحة لفصل مدينة سامراء وجنوبها عن محافظة صلاح الدين، وفصل مدينة تلعفر عن مدينة الموصل، وإعلانهما محافظتين، فضلا عن فصل النخيب عن محافظة الانبار وضمها إلى محافظة كربلاء، وخرائط أخرى يجري الإعداد لها! والطرفان يراهنان على علاقات القوة، و صفقات اللحظة الأخيرة بمباركة الراعي الأمريكي، لتحديد خرائط ما بعد تنظيم الدولة، دون الإنتباه إلى ان خرائط الأمر الواقع لن يكون سوى مقدمة إضافية لتكريس التطرف والعنف!
٭ كاتب عراقي