كثيرا ما نردد تبيان الواضح يؤدى إلى إشكاله، لكن يبدو أن الأمر قد لا يكون دقيقا في بعض الأحيان والتي من بينها موضوع الإعلان المشترك الذي يؤسس شراكة في مجال الهجرة بين موريتانيا والاتحاد الأوربي.
من المؤكد أن الملف يستحق سلاسة التسيير بالكشف المسبق عنه وعرضه أمام نقاش النخب تفاديا للشائعات والمغالطات المغرضة، لكن عدم استباق الأمور التي يتم إنضاجها قد يكون وجيها في بعض جوانبه خاصة إذا تم تعضيده بحضور النخب السياسية و رواد المجتمع المدني القادرة على قطع الطريق أمام "ناشطي" التمييع من غوغاء وسائل التواصل الاجتماعي.
إن ما يمكن أن يستفاد من هذه التجربة أن يكون الجانب الإعلامي لأي برنامج أو توجه حكومي حاضرا وبقوة قبل الدخول في معترك مغالطات نحن في غنى عنها، خصوصا أن مطاردة الشائعة دوما سيبقى الخيار الأصعب، وبالتالي فإنه من الضروري أن نكون متقدمين بخطوة على جاهزية النوايا المبيتة.
لقد أظهر خصوم الإعلان تسرعا و سوء فهم ـ ربما يكون مقرونا بسوء نية بناء على الخصومة السياسيةـ لما ستقدم عليه الحكومة، عندما تم الخلط بين مفهوم الاتفاقية والإعلان المشترك، فكما هو معروف فإن لكل كلمة في القانون عموما والعلاقات الدولية على وجه الخوص مدلول يرتب حقوقا والتزامات على الطرفين، فعندما نتحدث عن الاتفاقية الإطارية أو إعلان نوايا و مذكرة تفاهم أو الاتفاقية فإن الفيصل هو مدى الزامية ما تم التوقيع عليه، إذا ما استثنينا النص على التزامات معينة في أي من هذه الوثائق، ومع ذلك فإن الفقرة الأخيرة من الوثيقة المتضمنة خطة العمل و الإعلان المشترك الموقع من طرف معالي وزير الداخلية قطعت لسان كل خطيب عندما نصت على أن أحكامهما (الخطة، الإعلان) لا تهدف إلى خلق أي حقوق أو التزامات مرتبطة بالقانون الدولي أو القانون الوطني مما يعني ضمنيا أن ما تم التوقيع عليه مجرد إعلان نوايا لبحث ومناقشة جملة من الملفات ذات العلاقة ما بين الطرفين.
لكن الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح لماذا هذا الكرم الحاتمي (الأوربي) المفرج عنه اليوم بالذات و في ظل تفاقم أزمة الهجرة غير النظامية اتجاه أوربا ومشكل اللاجئين في منطقة الساحل الملتهبة؟
وهنا يجب التمييز بين ملفين منفصلين ومتصلين في آن واحد:
الأول يتعلق بقضية اللاجئيين؛ والثاني يتعلق بالمهاجرين اللذين يتصلان في أن كلاهما قابل أن يحمل صفة الآخر رغم أن سبب الأول حالة انعدام الأمن في منطقة ما، والثاني الهشاشة الاقتصادية في منطقة أخرى مما يستدعي تغيير الموطن بحثا عن الأمن والاستقرار بشقيهما الاقتصادي والاجتماعي.
إن المتابع لعلاقات بلادنا مع الاتحاد الأوربي بشكل ثنائي أو متعدد الاطراف ربما يكون على اطلاع بحقيقة التعاون الوثيق بين الطرفين بناء على العلاقات التاريخية ذات البعد الاقتصادي الاستراتيجي والتي تعززت بفعل العولمة وحاجة كل طرف للآخر ، حيث أثمر هذا التعاون العديد من الاتفاقيات والدعم الأوربي لخلق تنمية في بلد يبعد مسافة ساعة واحدة بالطائرة من أقرب منطقة أوربية(جزر الكناري) مما يجعل التأثر بما يحدث في البلد حاضرا في أذهان الأوربيين بسبب التماس الجغرافي البحري.
ومع التغيرات السياسية والصراعات التي تشهدها المنطقة فإنه من الطبيعي أن تعيد أوربا مراجعة علاقاتها مع موريتانيا بناء على المعطيات الجديدة والتي في مقدمتها حضور بلادنا كمركز للاستقرار والأمن في منطقة الصحراء الكبرى بناء على التجربة الفريدة في معالجة ملف الإرهاب والجريمة العابرة للحدود وقضية اللاجئين وهذا ما أكده أكثر من مسؤول أوربي وأممي في عديد المناسبات والتي كان آخرها قبل يوم واحد عندما صرحت كاتبة الدولة البلجيكية لشؤون الهجرة واللجوء السيدة *نيكول د مور* حيث أعلنت عن بحث الاتحاد الأوربي عن عقد شراكة مماثلة مع مصر ، وهذا ما بمثل منعرجا في اطار التعاطي الأوربي مع بلادنا في هذا الملف الذي كان يدار مع أطراف شمال بلادنا أو جنوبها.
كما ان التعاطي الإيجابي مع ملف اللاجئين من طرف بلادنا شكل دعما إضافيا لفت انتباه المجموعة الأوربية حيث سبق وأن أكد السيد *رؤوف مازو* مساعد المفوض السامي لشؤون اللاجئين خلال المنتدى العالمي للاجئين الذي استضافته سويسرا ما بين 13 -15 دجمبر 2023، أكد على أهمية الجهود الموريتانية وانفتاحها و مساعدتها للاجئين الماليين رغم التكلفة الكبيرة لتوفير الحاجيات الأساسية لهؤلاء اللاجئين (الصحة، التعليم، الامن، الحماية الاجتماعية...)، كما أشاد المفوض المساعد بما تمنحه موريتانيا للاجئين من حقوق غير مسبوقة، وشدد على أن موريتانيا تعتبر نموذجا في معالجة ملف اللاجئين في شبه المنطقة ، ودعا إلى ضرورة المحافظة على هذه الجهود.
إن هذه العوامل مجتمعة ينضاف إليها إذا ما علمنا أن الحكومات تهتم بتصميم سياسات بعيدة المدى أكثر من اهتمامها بتسيير الشؤون اليومية التي تترك للإدارات، فإننا نجد أن اللفتة الأوربية لها ما يبررها بعيدا عن نظرية المؤامرة التي تعشش في أذهان البعض بحثا عن شماعة يعلقون عليها مشاكلهم بدل البحث عن حلول لها.
طبعا لا مراء في أن أوربا تبحث عن مصالحها بالدرجة الأولى وهذا حقها الطبيعي كما يحق لنا نحن الدفاع عن مصالحنا لكن ما لا يدركه البعض أن للجغرافيا اكراهاتها فتحقيق مصالح قد تضر بالجار القريب كمن يشعل النار في الفناء الخلفي لمنزل جاره ولا يتوقع أن تصله النار.
وبالتالي فإن زرع بذور فتنة في بلادنا لا يمكن أن يشكل تفكيرا عقلانيا لدول خبرت ما جرى في ليبيا منذ فترة قريبة.
ورغم التطمينات التي أصدرتها الحكومة والاتحاد الأوربي بشأن عدم النية في توطين اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين فإن التفكير بهذا الشأن يعتبر غريبا للأسباب التالية:
أولاـ المهاجرين غير النظاميين: فكما هو معلوم فإن هذه الفئة من الناس تركت أوطانها بحثا عن رخاء اقتصادي في الأولدورادو الأوربي وبالتالي فإنها لن لا تقبل بأقل من ذلك فكما تعرفون فإن وضعية التشغيل في البلد لا تتمتع بنفس المزايا التي يمنحها الاقتصاد الأوربي كما أن المستوى الاقتصادي لبلدنا لا يختلف عن مستويات بلدان المهجر وتزداد عوامل عدم جذابية البلد كملجإ للاستقرار للاختلاف البيئي و الثقافي والديني الصارخ بين بلادنا والدول الافريقية مصدر الهجرات فلك أن تتصور ريح السموم والتصحر والجفاف واختلاف أساليب الترفيه، هل منطقيا يمكن أن تشكل عوامل جاذبة لمن تعود حياة أخرى، طبعا لا انفى أن تكون هناك استثناءات تثبت القاعدة لكن الأرجح أن بلدنا يشكل أحد البلدان الأقل جاذبية لمن يبحث عن تحسين وضعه الاقتصادي وبالتالي فإن من يبقي هنا من المهاجرين إنما ينتظر أول فرصة للخروج إلى الوهم الموعود في الشمال.
ثانياـ اللاجئيين: أما بشأن اللاجئين فإن الموقف منهم يبدو مؤسفا جدا رغم روابط الدم والدين والإنسانية فإن البعض مازال يعتقد أنهم يشكلون خطرا فكما هو معروف النزوح الجماعي يحدث في حالات الكوارث والحروب الأهلية التي تتخللها إبادة جماعية مما يفترض أن يستدعى مستوى من التضامن وما يترتب عنه من تقاسم الكسرة معهم خاصة إذا علمنا أن لا وجود لبلد معصوم من أحداث من هذا القبيل وبالتالي يجب أن يقف الجميع مع من يقع ضحية لمآسي مشابهة أما أن نثير مخاوف حيالهم فالأمر يستدعى استحضار ضمير غاب بفعل الخصومة السياسية.
إن حالة النزوح التي تحدث لا يمكن لأحد أن يقف في وجهها لكن من الممكن ضبطها وتقنينها بشكل يضمن لهؤلاء حقوقهم التي ألزمنا الدين بها اتجاههم وكذلك حقوق الانسان التي تناولتها مختلف المواثيق الدولية التي صادقت عليها بلادنا، كما يمكننا أن نحول الأمر من عبء اقتصادي إلى عامل للدفع بالنمو من خلال توفير الظروف الملائمة لذلك وبمساعدة أصدقائنا الذين عبروا عن استعدادهم لمد يد المساعدة وهذا فعلا هو ما نص عليه الإعلان المشترك.
إن هذا الإعلان المشترك الذي يؤسس لشراكة في مجال الهجرة بين بلادنا والاتحاد الأوربي في حقيقته تعبير عن وعي بترابط المصالح بين بلادنا والاتحاد الأوربي الذي بدأ يحس بوخز ضمير جراء التقاعس عن مد يد العون وبضرورة التعاون لمعالجة ملف يشكل عبئا على بلادنا وخطرا على الاتحاد الأوربي وبدون تعاون وثيق وحوار مستمر بين الطرفين لا يمكن أن نتجنب المخاطر التي يمكن أن تترتب على تأجيل حلحلته فأن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي.
_____________
احمد ولد محمدو
المستشار المكلف بالاتصال بوزارة الاقتصاد والتنمية المستدامة