من المعلوم بداهةً أن القضاء مر عبر العصور بأطوار متعددة؛ حيث انتقل من طور الفردية في العصور القديمة إلى طور التشكيلة الجماعية، وقد شكل القاضي الفرد المرجعَ الأوحدَ للفصل في الخصومات بالرغم مما قد يشوب ذلك من "ذاتية" قد تمس من حقوق الأطراف، لكن مع مرور الزمن وتحول الموازين وفي عهد المؤسسات تأكد اللجوء إلى استبدال القاضي الفرد بمؤسسة تعمل على تحقيق العدل من خلال مساطر إجرائية تحفظ التوازن وتضمن مزيدا من الشفافية في عملية التقاضي وتمنح العديد من الضمانات للمراجعين، ولم يكن ذلك سوى من خلال تشكيلة قضائية يشترك فيها مع القاضي شركاء آخرون من أجل تحقيق هذه المهمة وهذا التحدي العظيم.
إن المحاكم في ظل دولة المؤسسات تسير وفقا لإجراءات ومساطر تهدف إلى تحقيق العدالة بشكل موضوعي وشفاف، وتشكيل الهيئات القضائية الجماعية في المحاكم يعزز من موضوعية الأحكام الصادرة عن هذه الهيئات، وهذا ما يختلف تماما عن دور القاضي الفرد في عهد ما قبل المؤسسات الذي كان يحكم بناء على حدسه أو قناعاته.
وفي عهد المؤسسات يشكل كتاب ضبط المحاكم جزءا لا يتجزأ من مؤسسة القضاء وضمانة إضافية لتحقيق العدالة؛ إذ يقوم كتبة ضبط المحاكم بالعمل المؤسِّس الذي يستند عليه القاضي للفصل في الخصومات، وما لم يكن هذا الدور محميا بالقانون فلن تكون له فعالية تذكر، وما لم يمكن أصحاب هذه المهمة من امتيازات مادية ومعنوية تكفل حمايتهم من المغريات فإن بابا من أبواب الفساد يظل مشرعا أمام مداخل الرشوة والفساد.
إن وثيقة إصلاح العدالة التي تمثل خارطة طريق لتحسين منظومة العدالة في البلاد قد أهملت جوهر مشكل مؤسسة القضاء، فلم تحمل هذه الوثيقة أي إصلاح يمس من جوهر هذا المشكل المتمثل في كتاب ضبط المحاكم الذين هم عرابو العمل القضائي وأمَنَةُ الإجراءات والشهود على عمل المحاكم، فقد شاب هذه الوثيقة العديد من الملاحظات؛ حيث لم تؤخذ توصيات هذه المكوّنة بعين الاعتبار، وقد اكتفت بمعالجة ضعيفة للقضايا المتعلقة بالامتيازات المهنية والمادية والمعنوية لكتاب الضبط، بل ذهبت أبعد من ذلك لتقليص "الاستقلالية" النسبية التي يتمتع بها كاتب الضبط كشاهد على عمل المحكمة وكأمين على الإجراءات القضائية، في مسعى لتحجيم الدور المحوري الذي يقوم به كاتب الضبط، وهو ما يتنافى مع مبادئ تحقيق العدالة، وشفافية الإجراءات، وأهمية استقلال القضاء، حيث يجب التفريق ما بين التبعية الإدارية و"الاستقلالية" القضائية التي يجب أن يتمتع بها كاتب الضبط، والتي تؤثر على حمل أمانة القيام بواجب العدل بعيدا عن الخضوع أو الإخضاع.
إن تحقيق العدل في عصر المؤسسات لا يقتصر على الدور الفردي فحسب، وإنما يتم عبر مجهود مؤسسي يتطلب تكامل أدوار الفاعلين في المؤسسة، ويشكل كتاب الضبط – بعد رؤساء المحاكم – الركيزة الثانية في المؤسسة القضائية، إذ لا يمكن أن تقوم محكمة دون هاتين الركيزتين، ولا يمكن أن يصدر حكم قضائي دون معيّة كاتب ضبط، وبالتالي فإن تحسين الوضع المادي والمعنوي للقضاة وكتاب الضبط هو الضامن الأكبر أمام أية عوامل سلبية قد تؤدي إلى الإخلال بمبادئ تحقيق العدالة.
وإذا كان مطلوبا من القاضي الفرد في عصر ما قبل المؤسسات أن يكون غنيا حتى لا يتكفف الناس، وكان لزاما على "الحاكم" في عهد المؤسسات أن يغني القاضي، فإن هذا "الإغناء" يجب أن ينسحب على المؤسسة لا أن يقتصر على جزء من تشكيلتها دون الجزء الآخر.
إنه من واجبكم سيادة رئيس المجلس الأعلى للقضاء؛ ضامنِ استقلالية القضاء أن تمكنوا الفاعلين في قطاع العدل من الحقوق المادية التي تكفل لهم الاستقلالية خصوصا فئة كتاب الضبط، فتصحيح الوضع المادي والمعنوي والمهني لكتاب الضبط ليس ترفا بل هو ضرورة لضمان كفاءة النظام القضائي واستقلاليته، وحري بكم سيادة الرئيس – بوصفكم حامي حمى هذه المؤسسة - أن تعملوا على أن لا ينكسر أو يُكسر قلم العدالة.
_________
ذ/ محمد يحي عبدالرحمن
اعلامى وكاتب ضبط محكمة مقاطعة السبخة