«دخلت إلى السوبر ماركت لشراء بعض الحاجيات فلما خرجت لم أجد سيارتي… لقد جرفتها المياه!!»… هكذا تحدث أحد المتضررين الكثيرين في تونس العاصمة ومدن أخرى مختلفة في الساحل والجنوب بعد هطول الأمطار قبل أيام قليلة بكميات كبيرة للغاية. آخرون غيره إما جرفت السيول سياراتهم فجعلتها تسبح في المياه كالسفن أو رمت بها بعيدا أو دخلت بيوتهم فخربت أثاثها وكل ما فيها.
من حسن الحظ أن هذه الأمطار، التي تأتي بعد أشهر طويلة من الجفاف، لم تدم طويلا وإلا لكانت الخسائر أكبر وهي التي وصلت إلى حد وفاة طفلة صغيرة جرفتها سيول الأمطار. وكما خرجت عناوين أغلب نشرات الأخبار، وأولها في التلفزيون الرسمي، فإن هذه الأمطار وإن كانت مفيدة للزراعة وساهمت في امتلاء السدود بعد طول شح إلا أنها كشفت عن بنية تحتية مهترئة تحتاج إلى صيانة كبرى إن لم يكن إلى تجديد كامل وواسع.
كادت الأمور أن تكون أسوأ لو امتدت هذه الأمطار لأيام متتالية، أو حتى ليوم واحد فقط بالغزارة نفسها التي هطلت بها، غير أن شيئا واحدا توافق الجميع في الإشارة إليه في كل المدن أو الأحياء التي عرفت هذه الأحداث: لقد ساهمت الأوساخ المتراكمة في الشوارع في جعل ما حدث بهذه الدرجة. صحيح أن معظم قنوات صرف مياه الأمطار تحتاج إلى صيانة أو تجديد ولكن أغلب هذه القنوات لم تكن قادرة أصلا على القيام بدورها إما لانسدادها المزمن منذ فترة طويلة أو لأن الفضلات والنفايات التي جاءت بها مياه الأمطار هي التي عطلتها بالكامل… مما يطرح من جديد وللمرة الألف قصة نظافة الشوارع في كل المدن التونسية تقريبا في السنوات الست الماضية، إلى درجة مخزية ومسيئة لصورة البلاد وسمعتها، أقله كبلد سياحي قبل أن يكون بلدا لمواطنيه.
قبل عدة أسابيع استاء التونسيون مما قاله السفير الألماني لديهم بأنه لن ينصح مواطنيه بزيارة تونس لأنها غير نظيفة. كلمات غير دبلوماسية ومسيئة وقد لا يكون هو أو أي سفير غربي غيره آخر قادرا على قولها عندما تتعلق بقبلات سياحية شهيرة في بلدان كبرى في آسيا على سبيل المثال، لكن الرجل لم يفتر أو يكذب حتى وإن كان صادما وجارحا.
من المفيد جدا هنا التذكير أن تونس التي عرفت منذ الإطاحة ببن علي في كانون الثاني/يناير 2011 موعدين انتخابيين برلمانيين وانتخابات رئاسية لم تنظم فيها إلى حد الآن أي انتخابات بلدية مما ساهم في تكريس هذا الوضع المزري. البلديات تديرها طوال هذه السنوات الماضية هيئات مؤقتة عُــينت بناء على تفاهمات معينة بين الفرقاء السياسيين وبالتالي فهذه الهيئات ومن فيها لم يخترهم الناس وغير قادرين على محاسبتهم فازداد التسيب وتفشت عدم المسؤولية، وفاقمها عنصران أساسيان: إهمال المواطن وتقصير كل الحكومات.
المواطن الذي يتذمر يوميا من عدم نظافة الشوارع هو نفسه أحد أبرز المسؤولين عن ذلك لغياب الحس المدني المتحضر لديه، فهو نفسه من يرمي بالفضلات خارج الأماكن المخصصة، وهو نفسه الذي لا يرى حرجا في رمي القوارير الفارغة وعلب السجائر والمناديل الورقية من نافذة سيارته، وهو نفسه من يعتبر الرصيف مكبا للنفايات لمجرد عدم وجود حاوية، وقد يكون هو نفسه صاحب مطعم في حي راق ويفعل ذلك لكنه لا يفكر أبدا في أن يقتني من ماله الخاص حاويتين أو أكثر، كما أنه لا يقوم حتى بتنظيف الرصيف التابع له لمجرد قناعته المريضة بأن الشارع ليس ملكه وهو مسؤولية الدولة.
أما الحكومات فلا تقل سوءا، جميعها التي تعاقبت في السنوات الماضية، مع ضرورة الانتظار قليلا لمحاسبة الحالية. جميعها فشلت في مهمة واحدة وبسيطة وهي تنظيف الشوارع والساحات العامة بل وحتى في تنظيف الطريق الذي يبدأ من المطار واجهة البلاد الأولى. أسهبوا جميعم، بتلويناتهم السياسية جميعها، في الخوض في كل شيء وفي لا شيء في حين عجزوا عن مهمة واحدة لا غير: تنظيف البلاد من القمامة الملقاة في كل مكان وفرض عقوبات صارمة على كل مخالف. وحتى إن عجزت أو افتقدت التجهيزات اللازمة فهناك إمكانية اللجوء لشركات خاصة محلية أو حتى أجنبية. هل هناك أسهل من مهمة كهذه سيصفق لها الناس جميعا ؟!! لو فعلت أي منها مثل هذا لنالت إعجاب الناس جميعا بغض النظر عن أية قوانين أو تشريعات متقدمة قد تكون سنتها في هذا المجال أو ذاك.
لا شيء مؤلما أكثر من أن يأتيك صديق، عربي أو أجنبي، يحب تونس كثيرا وزارها مرات عديدة ليقول لك: ما الذي أصابكم؟! بلدكم كان أنظف وأجمل سنوات بن علي!!
٭ كاتب وإعلامي تونسي