
تتجه أنظار الأوساط الاقتصادية الإفريقية، وحتى العالمية، إلى العاصمة الإيفوارية أبيدجان، التي ستحتضن خلال الفترة من 26 إلى 30 مايو المقبل اجتماعات الجمعية السنوية لمجلس محافظي البنك الإفريقي للتنمية في دورته الستين، والتي سيتم خلالها انتخاب رئيس جديد للبنك، يخلف الرئيس المنتهية ولايته، النيجيري أكينوامي أديسينا، الذي قاد المؤسسة المالية الأهم في القارة خلال العشرية المنصرمة.
يتنافس على هذا المنصب خمس من كبار الشخصيات الاقتصادية في القارة، هم : الموريتاني الدكتور سيدي ولد التاه، الرئيس الحالي للمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا، ووزير الاقتصاد السنغالي السابق أمادو هوت، والتشادي عباس مهمات تولي، محافظ بنك دول وسط أفريقيا، والجنوب إفريقية باجابيلي اسوازي اتشابلالا، النائبة الأولى السابقة للرئيس الحالي للبنك الإفريقي للتنمية، والزامبي ساميل مينزل ميمبا، الموظف السامي في البنك الدولي.
سيضطلع الرئيس المقبل لهذه المؤسسة بمهام كبيرة واستراتيجية بالنسبة للتنمية المستدامة في القارة خلال السنوات المقبلة، خاصة فيما يتعلق بدفع التنويع الاقتصادي في القارة، ومواجهة تحديات التغير المناخي، والقضاء على الفقر.
هذا، ويُحسب للرئيس المنصرف أنه تمت في عهده زيادة رأس مال البنك زيادة معتبرة، إذ تجاوز من حدود 90 مليار دولار إلى أكثر من 200 مليار دولار أمريكي.
احمد سالم ولد أحمد / رئيس دائرة العلاقات الدولية بالمنظمة العربية للتنمية والزراعة
تُعتبر عملية انتخاب رئيس هذه المؤسسة عملية معقدة، حيث يتعين على المرشح الفائز أن يحصل في آن واحد على ما لا يقل عن 50.01% من أصوات 54 دولة إفريقية عضوة، والمعروفة في مصطلحات البنك بالأعضاء الإقليميين، وما لا يقل عن نفس النسبة من أصوات الدول غير الإفريقية الأعضاء المساهمة في البنك، والبالغ عددها 27 بلداً تنتمي إلى القارات الأخرى، وأصبح لها دورها الوازن في رسم سياسة وتوجهات البنك، إذ تمثل مساهماتها في رأس مال المؤسسة حدود 40%. والمعروفة اصطلاحاً بالأعضاء غير الإقليميين.
كما أن أصوات الدول الأعضاء ليست متساوية، بل هي حسب نسبة المساهمة في رأس المال، فأكبر مُصوِّت هو نيجيريا، التي منها الرئيس المنتهية ولايته، وتساهم في رأس المال بنسبة 9.280%.
هنالك عشرون دولة تعتبر هي المؤثر الأكبر في عملية الانتخاب بالنظر إلى مستوى مساهماتها، وهي: نيجيريا، والولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، ومصر، وجنوب إفريقيا، والجزائر، وألمانيا، وكندا، وفرنسا، وساحل العاج، وليبيا، والمغرب، وإيطاليا، وغانا، وزمبابوي، والمملكة المتحدة، وإثيوبيا، والسويد، وسويسرا، وكينيا.
وعندما نحاول استشراف حظوظ المتنافسين الخمسة انطلاقاً من بعض المعايير الموضوعية في هذا النوع من السباقات، يتبادر لنا أن المرشح الموريتاني الدكتور سيدي ولد التاه يتقدم بوضوح على بقية المتنافسين.
أولاً: نقاط قوة الدكتور سيدي ولد التاه:
أ: المؤهلات الذاتية:
اقتصادي بارز يحمل شهادة الدكتوراه.
قاد اقتصاد بلاده على مدى عقد من الزمن.
عمل في مؤسسات تنموية وتمويلية إقليمية ودولية على مدى سنوات عديدة.
أنجز الكثير من دراسات المشروعات التنموية في الكثير من البلدان الإفريقية كخبير استشاري مستقل.
يجيد ثلاث لغات من اللغات الخمس الرسمية في الأمم المتحدة.
قاد على مدى عشر سنوات أكبر مؤسسة تمويلية بعد البنك الإفريقي للتنمية خاصة بالقارة الإفريقية، هي المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا، الذي عرف في فترة قيادته له نقلة نوعية جنت الدول الإفريقية ثمارها (موضوع مقال نشرته قبل أسابيع).
له دفتر عناوين كبير في أوساط المال والأعمال على المستوى العالمي، خاصة الممولين العرب.
له قدرات تفاوضية عالية وحس دبلوماسي جذاب.
رغم مشواره المهني الطويل، تميز دائماً بنظافة سجله في التسيير.
من أكثر الخبراء اليوم معرفة بإشكاليات التنمية في القارة الإفريقية.
ب: قابليته للتسويق بين القادة الأفارقة لقيادة البنك الإفريقي للتنمية (الأعضاء الإقليميون للبنك الإفريقي للتنمية)
تعود علاقات الدكتور سيدي ولد التاه مع الكثير من النخب السياسية والاقتصادية في القطاعين العام والخاص في إفريقيا إلى أيام كان وزيراً للاقتصاد الموريتاني على مدى عشر سنوات، حيث كان مبعوثاً لدى الكثير من قادة هذه الدول كوزير للاقتصاد و كوزير خارجية بالنيابة.
ظل على مدى عشرين سنة حاضراً في المنتديات الاقتصادية الكبرى الدولية والإقليمية التي يرتادها قادة الاقتصاد الإفريقي، مما مكنه من نسج علاقات واسعة مع هذه النخب (الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الاجتماعات السنوية للمؤسسات المالية العربية، الاجتماعات السنوية للبنك الإفريقي للتنمية، الاجتماعات السنوية للبنك الإسلامي للتنمية، اجتماعات اللجان المشتركة للتعاون بين بلاده والكثير من دول العالم من مختلف القارات).
استثمر الدكتور سيدي ولد التاه فترة قيادته للمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا لإقامة شبكات من العلاقات الوطيدة مع أغلب قادة القارة وأوساطها السياسية والاقتصادية، مما جعله محبوباً لديهم جميعاً، وهو مُحبَّب بالطبع، فقد أغدق عليهم التمويلات بسخاء في كل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
كانت إدارته للمصرف تختلف عن إدارة المديرين السابقين، فهو لم يتعامل مع الدول الإفريقية كجهة مانحة، بل خدم إفريقيا كابن للقارة، ويُعتبر فتحه، ولأول مرة، الباب أمام كوادر القارة من غير العرب للالتحاق بالعمل الوظيفي في المصرف له دلالة كبيرة في هذا المجال.
كذلك مما يعزز حظوظه في نيل ثقة الأعضاء الإقليميين للبنك كونه مرشح شمال إفريقيا، كما يقضي بذلك التناوب بين أقاليم القارة في قيادة البنك، ودول هذا الإقليم لها وزنها الكبير في عملية التصويت بحكم أهمية مساهمتها في رأس المال، خاصة مصر والجزائر وليبيا والمغرب.
ليس من المتوقع أن يتخلف المغرب عن دعم المرشح الموريتاني، حتى ولو كانت له علاقة مميزة مع بلد أحد المنافسين، وذلك لكون العلاقات بين البلدين تعرف حالياً تطوراً كبيراً، ولكون المغرب سبق أن فوت لموريتانيا سنة 1996 فرصة الفوز بهذا المنصب عندما رشح المغرب غباج لينافس المرشح الموريتاني آنذاك محمد سالم ولد لكحل رحمه الله ويفوز عليه.
المكانة المتميزة للدكتور سيدي بين أوساط التمويل العربي التي لها وزن تمويلي كبير في إفريقيا يمكن أن يكون هو الآخر عامل تأثير على العديد من الدول الإفريقية لتمنحه صوتها.
لم يسبق لموريتانيا أن شغلت وظيفة رئيس البنك.
حالة الاستقرار والنهج الدبلوماسي المتوازن والوسطي الذي تنهجه موريتانيا حالياً، والذي يمتاز بالمرونة في التعامل مع قضايا القارة والابتعاد عن الاصطفاف، يعطي مرشحها حظوظاً إضافية للفوز بقيادة البنك الإفريقي للتنمية.
هنالك دول إفريقية تقدمت بمرشحين إلا أنها مطمئنة أن المرشح الموريتاني إذا فاز لن يكون أقل رعاية لمصالحها من مرشحها، كما برهن على ذلك خلال قيادته للمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا، فمثلاً تلقت السنغال من المصرف أيام الدكتور سيدي ولد التاه أكبر غلاف مالي تلقته دولة إفريقية.
ج: قابليته للتسويق في أوساط أعضاء البنك غير الإقليميين،
يضم البنك الإفريقي للتنمية في عضويته 27 دولة غير إفريقية تساهم بنسبة تقارب 40% في رأس المال، مما يكسبها وزناً كبيراً في رسم سياسة المؤسسة وتوجيهها، ولا بد لأي مرشح لرئاسة البنك أن يحصل على نسبة لا تقل عن 50.01% من أصوات هذه الدول، وأهمها: الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، وألمانيا، وكندا، وفرنسا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، والسويد، وسويسرا، والصين، والسعودية، والكويت، والهند، وكوريا، والبرازيل، والأرجنتين، وبلجيكا، وإسبانيا.
يمكن تقسيم هذه الدول بالنسبة للمرشح الموريتاني الدكتور سيدي ولد التاه إلى أربع مجموعات:
دول شقيقة لموريتانيا مثل السعودية والكويت، ويُتوقع أن يكون تصويتها ليس فقط مضموناً للمرشح الموريتاني، بل يُنتظر أن تجلب له أصواتاً أخرى من الدول الإقليمية وغير الإقليمية، ومن دواعي دعم هذه الدول للمرشح علاقات الأخوة الرسمية بين الحكومات والعلاقات الخاصة للمرشح في الأوساط الحكومية والمالية، وغالباً ما لعب الدكتور سيدي دوراً كبيراً لحشد دعم الدول الإفريقية لمرشحي هذه الدول في المنظمات الدولية.
دول صديقة لموريتانيا و تربطها بها علاقات تاريخية راسخة مثل الصين، حيث أن موريتانيا لم تعترف في يوم من الأيام بتايوان رغم إغراءاتها المالية وحاجة البلد للمال، على خلاف ما قامت به دول إفريقية أخرى مثل السنغال، ويُتوقع أن تكون الصين في مقدمة الداعمين للمرشح الموريتاني لتلك الأسباب.
دول تربطها بموريتانيا شراكة سياسية وتنسيق أمني وعسكري وفي مكافحة الهجرة والجريمة العابرة للحدود في المرحلة الحالية، وتوجد في مقدمتها فرنسا وباقي الدول الأوروبية الأخرى، ولا يُتوقع أن تخذل هذه الدول موريتانيا في هذا الموقف صوناً لتلك المصالح.
دول ليست لها روابط خاصة بموريتانيا ولا ببلدان المرشحين الآخرين، واهتمامها الأساسي الخلفية الفنية والمهنية للمرشحين حرصاً على ازدهار البنك وزيادة عائداتها من أرباح مساهماتها وإسهام هذه المساهمات في تنمية القارة، وتقع باقي الدول غير الإقليمية ضمن هذه المجموعة، وتُعتبر الحصيلة الإيجابية الباهرة للدكتور سيدي ولد التاه في قيادة المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا، وما شهده المصرف من صعود أسهم وتصنيف ائتماني وتحولات كبيرة في ظل قيادته غيرت وجهه تماماً، هي أفضل وسيلة لإقناع هذه المجموعة.
ثانياً: نقاط ضعف المرشحين الآخرين:
لا شك أن جميع المرشحين يتوفرون على المؤهلات العلمية والتجربة التي تؤهلهم لقيادة المصرف، وهذا ما جعل دولهم ترشحهم، إلا أن العملية التنافسية تفرض فحصاً مجهرياً دقيقاً لكل مرشح على حدة، وجمع أكبر كم من المعلومات عنه لانتقاء الأفضل.
إذا انطلقنا من هذه المقاربة فسنتوصل إلى أن المرشحين الأربعة المنافسين للمرشح الموريتاني لديهم نقاط ضعف كبيرة:
أ – المرشح السنغالي:
الدبلوماسية السنغالية تختلف في الوقت الراهن عما كانت عليه في الماضي، حيث كانت قوية ومؤثرة في الغرب وإفريقيا والعالم الإسلامي، فالتحول الحالي الذي يشهده البلد جعل صداقاته التي كانت عنده لم تعد كما كانت عليه، بل إن كثيراً من أصدقائه التقليديين خاصة في الغرب ومنهم فرنسا أصبحوا ينظرون إليه بشيء من الريبة في انتظار أن يأخذ نظامه الجديد شكله النهائي.
المرشح السنغالي كان وزيراً في عهد النظام السابق في فترات كان فيها الحكام الحاليون نزلاء السجن، وليس من المضمون أن يبذلوا جهداً استثنائياً لضمان فوزه، خاصة أن مصالح البلاد ستظل أكثر من مصونة إذا فاز المرشح الموريتاني.
مرشح السنغال ينتمي جغرافياً لغرب إفريقيا وهي نفس المنطقة التي ينتمي لها الرئيس المنصرف، والتداول بين المناطق الجغرافية في القارة على رئاسة البنك مطلوب.
السنغال سبق وأن قاد البنك لفترة طويلة أيام بابكر انجاي رحمه الله.
عندما كان المرشح السنغالي وزيراً للاقتصاد في بلاده، وجه الكثير من الاستثمارات للبنية التحتية وهو توجه يخدم النمو الاقتصادي، إلا أن هذه البنية كانت ممولة بقروض زادت كثيراً من عبء المديونية الخارجية للبلد.
تداولت الأوساط السياسية والإعلامية والمالية أخبار فضيحة تتعلق بتلقي المرشح السنغالي عمولة بمبلغ 20 مليار فرنك غرب إفريقي سنة 2007 في إطار منح الرخصة الثالثة من رخص الاتصالات بالسنغال، وقد نفى المعني ذلك، إلا أن التبرئة لم تتم بشكل قاطع، وهذا النوع من الممارسات حساس بالنسبة لمن يتقدم لقيادة المؤسسات المالية.
يبدو أن الرئيس المنصرف للبنك الإفريقي لديه ميول خاص هو وبعض رجال الأعمال في بلاده على المرشح السنغالي، وهذا ما يُنظر إليه بشيء من الريبة.
ب مرشحة جنوب إفريقيا:
سبق وأن قررت مجموعة دول جنوب القارة الإفريقية دعم مرشح زامبيا، وفي آخر لحظة خرجت جنوب إفريقيا عن هذا الإجماع وقدمت مرشحة، ولم تعلن أية دولة من هذه المجموعة باستثناء جنوب إفريقيا دعمها لهذه المرشحة.
تنتمي هذه المرشحة إلى نفس المجموعة اللغوية التي ينتمي إليها رئيس البنك المنصرف، في حين تقضي التقاليد بالتناوب بين الدول الناطقة بالإنجليزية وتلك الناطقة بالفرنسية.
المواقف الدبلوماسية الحالية لجنوب إفريقيا تقلل من حظوظ مرشحتها بالفوز بأغلبية أصوات أعضاء البنك غير الإقليميين خاصة من الدول الغربية.
كانت هذه المرشحة تقدم نفسها أنها وريثة الرئيس الحالي في سياسته قبل أن تختلف معه، والكثير من أعضاء البنك يطالبون اليوم بالتغيير والتجديد في توجهات البنك.
ج المرشح الزامبي،
لا يتوفر هذا المرشح على أية تجربة وطنية، فكل مساره المهني على مدى ثلاثين عاماً قضاه في البنك الدولي، والنخب الاقتصادية والسياسية في القارة أصبحت عندها حساسية كبيرة من هذا النوع من القادة الذي يبني مساره بشكل حصري في المنظمات الدولية ويتقدم لتبوء المراكز الحيوية في القارة دون أن تكون له المعرفة الكافية بها. 36. مرشح زامبيا مثل مرشحة جنوب إفريقيا ينتمي لبلد أنجلوفوني مثل الرئيس الحالي، في حين أن هنالك تفاهم ضمني على التداول على هذه الوظيفة بين الدول الناطقة بالإنجليزية وتلك الناطقة بالفرنسية، كما أن لغته الوحيدة هي الإنجليزية مع تحدث بفرنسية مكسرة.
د مرشح اتشاد:
مُنحت القارة الإفريقية حالياً لبلاده منصبان رفيعان لم يسبق أن جمعهما بلد إفريقي في آن واحد، هما رئاسة مفوضية الاتحاد الإفريقي ورئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي، وليس بديهياً أن تُمنح لهذا البلد وظيفة ثالثة من حجم رئاسة البنك الإفريقي للتنمية.
مرشح اتشاد كان ضالعاً في فضيحة اتُهم فيها بالمحسوبية في تسيير مسابقة اكتتاب نظمها بنك دول وسط إفريقيا الذي يترأسه، وعُرض هذا الملف أمام المحكمة المختصة في منظمة دول وسط إفريقيا...
_______
بقلم .احمد سالم ولد أحمد / رئيس دائرة العلاقات الدولية بالمنظمة العربية للتنمية والزراعة