أوردت صحيفة «حرييت» التركية خبراً عن مشروع بناء جدار عازل على طول حدودها الجنوبية مع سوريا. وستقوم مؤسسة الإسكان الحكومية TOKİ بتنفيذ المشروع الذي سبق لمؤسسة الجيش والمحافظات الحدودية تنفيذ جزء منه بطول 200 كم. ويبلغ طول الحدود البرية المشتركة بين البلدين 911 كم، تتوقع المؤسسة المنفذة استكمال الجدار العازل على كامل طولها خلال خمسة أشهر. ويبلغ ارتفاع الجدار ثلاثة أمتار، وسماكته متران من الاسمنت المسلح ذي المقاومة العالية، على أن يزود أعلاه بأسلاك شائكة، وينشأ خلفه، أي على الجانب التركي، طريق لدوريات حراس الحدود.
مع العلم أن الشريط الحدودي مفخخ أصلاً بالألغام، منذ منتصف الخمسينات حين انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي. وقدمت مشاريع قوانين عدة إلى البرلمان، في العقدين الماضيين، لإزالة تلك الألغام واستثمار حقولها الخصبة في زراعات عضوية، كانت إسرائيل أكثر المتحمسين لتنفيذها، لكن الحكومات المتعاقبة فشلت في إقرارها في البرلمان.
ثم جاءت الثورة السورية والانخراط التركي النشط فيها، منذ ربيع العام 2011، وفتحت تركيا حدودها أمام موجات اللاجئين الهاربين من قمع النظام. وبعد أقل من عام على ذلك، سيطرت قوات المعارضة المسلحة على البوابات الحدودية ومعظم الشريط الحدودي الذي أصبح مفتوحاً في الاتجاهين: نزوح مدنيين من جهة، وعبور السلاح والمقاتلين من الجهة الثانية. ومنذ الصفقة الكيماوية بين النظام وروسيا والولايات المتحدة، في شهر أيلول 2013، وبالأخص بعد إعلان «دولة الخلافة» الممتدة من الموصل إلى أطراف حلب، تصاعدت اتهامات الدول الغربية وروسيا، لتركيا، بتسهيل مرور الجهاديين القادمين من مختلف بلدان العالم، عبر حدودها، إلى الأراضي السورية، ومعالجة جرحاهم في المشافي التركية. وإذ ماطلت أنقرة في الانضمام إلى التحالف الدولي الذي تم تشكيله بقيادة واشنطن لمحاربة داعش، ازدادت هذه الاتهامات وأخذت طابع حملات إعلامية كبيرة وضغوط دبلوماسية على أنقرة، وخاصةً من الولايات المتحدة.
رضخ الأتراك، بعد طول تأخير، لتلك الضغوط بأن وافقوا، في تموز 2015، على فتح قاعدة إنجرلك الجوية، وقواعد أخرى، أمام استخدام طيران التحالف بهدف قصف مواقع داعش داخل الأراضي السورية، لكنهم لم يشاركوا بطيرانهم في عمليات القصف إلا بصورة رمزية. ولم تمض ثلاثة أشهر على ذلك حتى تدخل الروس في الحرب السورية لمساندة النظام الذي أعلن رأسه، قبل فترة وجيزة، عن عدم كفاية قواته في «محاربة الإرهاب».
ثم انقلب كل شيء، بالنسبة لتركيا، بعد إسقاط طيرانها لطائرة السوخوي الروسية في المنطقة الحدودية، في تشرين الثاني 2015. فقد حرم على تركيا تحليق طيرانها فوق الأراضي السورية، إضافة إلى انكفائها السياسي والعسكري عن الصراع السوري، وصولاً إلى اعتذارها من روسيا على حادثة إسقاط الطائرة، وعودة الدفء إلى العلاقات بين البلدين، منذ حزيران ـ تموز 2016، عشية الانقلاب العسكري الفاشل على الحكومة الشرعية.
كان من ثمار التفاهمات الروسية ـ التركية، حصول أنقرة على موافقة موسكو على عملية درع الفرات، 24 آب 2016، حين دخل الجيش التركي، للمرة الأولى منذ بداية الصراع السوري، الأراضي السورية من بوابة جرابلس. ويمكن القول إن ثمن الموافقة الروسية على عملية «درع الفرات» الموجهة أساساً ضد قوات حماية الشعب التابعة للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، كان تخلي أنقرة عن هدف إسقاط نظام الأسد الكيماوي (في حين أن القبول الأمريكي بالتدخل التركي كان مشروطاً باستهداف القوات التركية، مع الفصائل السورية الحليفة، لمواقع داعش، وأولها بلدة جرابلس التي كانت الأخيرة تحتلها منذ عامين). بل إن الصمت التركي اللافت، هذه الأيام، عن إحراق مدينة حلب من قبل الطيران الروسي والأسدي، يشي بأن الأمر يتجاوز مجرد القبول ببقاء الأسد، إلى انسحاب كامل من الصراع السوري، باستثناء ما تعلق منه بالشريط الحدودي الطويل الذي تسيطر القوات الكردية على معظمه. وهكذا باتت الأجندة التركية في سوريا تقتصر على «الحفاظ على وحدة الأراضي السورية» (اقرأ: منع قيام أي كيان كردي ذي وضعية قانونية خاصة) والسيطرة على جيب حدودي، يمتد من جرابلس إلى إعزاز، خالٍ من داعش ومن القوات الكردية. أما عمق هذا الجيب فهو موضوع خلافي بين الأتراك والأمريكيين.
الآن مع الإعلان عن مد الجدار العازل، الذي كان بدأ بناؤه في مناطق محدودة بعد معركة كوباني، ليشمل كامل الخط الحدودي، فالحكومة التركية الغارقة في تداعيات الانقلاب العسكري الفاشل واستمرار حربها على جبهتي جماعة فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني، تعطي الانطباع وكأنها تريد إدارة ظهرها، تماماً ونهائياً، لسوريا والصراعات الدائرة فيها وعليها، لتنكفئ على نفسها ومشكلاتها الداخلية الكثيرة، ومن أهمها وجود ثلاثة ملايين لاجئ سوري مطلوب منها عدم السماح لهم بالوصول إلى أوروبا.
من زاوية نظر كردية، يعني الجدار محاولة من الحكومة لقطع الطريق أمام أي تفاعلات سياسية أو اجتماعية عابرة للحدود بين كرد سوريا وأشقائهم في تركيا.
ومن زاوية نظر عموم السوريين، يعني الجدار سجناً كبيراً للاجئين السوريين وقطعاً لصلاتهم مع أخوتهم في الداخل، ومنع تدفق المزيد منهم عبر الحدود. فاللاجئ السوري لا يستطيع التنقل من محافظة تركية إلى أخرى إلا بعض الحصول على إذن بالسفر محدود بالمكان والزمان، يجب إعادته إلى إدارة الهجرة بعد العودة من السفر.
أضف إلى ذلك ما يثيره جدار بهذا الارتفاع، ويغطي كامل الخط الحدودي، من انطباع مفاده أن حرب تدمير سوريا ستمتد لسنوات مقبلة. لا يخفف من هذا الانطباع المتشائم ما قاله مدير المؤسسة المنفذة من إمكانية إزالة الجدار بسهولة.
فكل قطعة من الجدار تزن سبعة أطنان. سبعة أطنان من العزلة التركية المستعادة مع جوارها الأقرب.
٭ كاتب سوري