طوّر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شخصية خرافية عن «شريكي الراحل في عملية السلام اسحق رابين»، كما كان لا ينفك يقول، مشدّداً على مخارج الأحرف. طوّر هذه الشخصية الخرافية بشكل تصاعدي منذ اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي، وتعاقب حكومات شمعون بيريز، وبنيامين نتنياهو، وايهود باراك، وترنّح العملية التفاوضية برمّتها عندما انتقلت إلى بحث «الوضع النهائي»، وصولاً إلى اشتعال الانتفاضة الثانية، واعادة احتلال الضفة، ومحاصرة أبو عمار في مقر المقاطعة.
كلّما كانت تضيق أمامه أكثر، ويكشف الجانب الاسرائيلي عن المزيد ثم المزيد من العدوانية، كان أبو عمار يمضي قدماً في تشكيل مثل هذه الشخصية الخرافية حول اسحق رابين. فهذا حصار تمويني ما كان ليرضاه رابين لو كان حيّاً، وذاك دعم محموم للمستوطنين ما كان ليقبل به، وهكذا.
ومع الوقت، تضاعفت ما في جعبة أبو عمّار من الذكريات حول رابين وعائلته، حتى خيّل للمرء أنهما نسقا حياتهما سوية، كل في موقعه المضاد للآخر، من أجل الوصول إلى لحظة السلام المنشودة بين الشعبين، وأن رابين أوصى الختيار بعائلته، وبالشعبين من بعده!
لم تكن هذه الشخصية الخرافية عن اسحق رابين، الرجل الذي تردّد، بصلف، في وضع يده بيد عرفات في واشنطن أوّل مرة، والذي لم يقبل بالدولة الفلسطينية المستقلة حتى ساعة اغتياله، ليسندها الواقع بأي شكل من الأشكال. يبقى أن رابين اغتيل. واغتياله حدث على جانب كبير من الخطورة بالنسبة إلى تماسك المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية. ليس هناك في اسرائيل تناقض بهذه الدرجة من التوتر، بين «اجماعين جوفيين»، أحدهما يذهب إلى ان اغتياله يعرّض أمن اسرائيل ونظامها السياسي للخطر بشكل مزمن، وثانيهما يكتم قناعته بأن مسار التسوية، بالشكل الذي كان ماضيا فيها رابين، كانت كفيلة لإرهاق اسرائيل بما لا تستطيع تحمّله. استوطنت الشخصية الخرافية التي نسجها أبو عمّار عن رابين في هذا القعر المتلهب الذي يراد ردمه. اعتبر أن اللعب على ثنائية القتيل رابين والقاتل ايغال عامير فيها مكسب «رمزي» للمنطق الفلسطيني في خوض الصراع، خصوصاً وأن رابين، المولود في القدس، وبالتالي من «الصبرا»، قادم إلى السياسة من العسكر، من الهاغاناه والبالماخ ثم في رئاسة أركان الجيش، و»صانع انتصارات عسكرية» في اسرائيل.
تصلح الشخصية الخرافية التي طوّرها عرفات عن رابين نموذجاً لما اصطلح المفكر الهندي اشيش ناندي على تسميته بظاهرة «العدو الحميم» بين المستعمِر بكسر الميم، والمستعمَر بفتح الميم، وان كان أبو عمار هنا يقلب جزئياً معادلة ناندي. فناندي نظر إلى ظاهرة «العدو الحميم» على انها تنطلق أساساً من «تماهي» الضعيف مع الأقوى، والمعتدى عليه مع المعتدي. لكن واقعة اغتيال رابين نفسه، سمحت بقلب هذه المعادلة، فصار من الممكن مذّاك اعتبار مضطهدي الشعب الفلسطيني من بعده، على نموذج ايغال عامير، قاتله!
ظاهرة «العدو الحميم» هذه تجد لنفسها تصريفاً آخر في حالة أبو مازن ـ شمعون بيريس، والأمر مزمن هنا، ولا يقتصر على ملابسات العزاء ببيريز.
«التماهي مع المضطهِد» هنا، وتزيين هذا التماهي كشكل من أشكال مواجهته، ترتبط بتسويغ من نوع آخر: «اننا، نحن الثنائي المشكّل من ابو مازن وبيريس نمثل خانة المتعقلين من الجانبين في مواجهة اللاعقلانيين». أن يكون على هذه العقلانية أن تذرف الدمع لتثبت حجيتها، فهذا انعكاس جانبي فقط، للمفارقة الأساسية.
لم يولد بيريز في الأرض، ولم يأت من المؤسسة العسكرية. الثنائي الذي جمعه برابين في التسعينيات لا يلغي علاقة صعبة طويلة بين الرجلين امتدت لعقود، وبفوقية «العسكري» في حالة رابين، وهالة مرافقة مؤسس الدولة، ديفيد بن غوريون، في حالة بيريز.
وبيريز لم يكن عسكرياً كرابين، لكنه كان العين الشابة التي زرعها بن غوريون في وزارة الدفاع، وبن غوريون طيلة الخمسينيات والستينيات كان يحاصر مجايليه في السياسة، بالكوادر التي كانت تدين له بولاء مطلق، من الجيل الجديد. كان بن غوريون يأخذ على مجايليه ميوعتهم، بخلاف الكوادر المتحمسة لـ»الحرب الاستباقية» منذ مطلع الخمسينيات كبيريس ودايان.
المجايلون لبن غوريون والمتزاحمون معه، كانوا يأخذون عليه أن يحمي مراكز قوى تتبع له بشكل خارج عن «منطق الدولة». بيريز مثلاً، طوّر من موقعه الوظيفي في وزارة الدفاع «ديبلوماسية موازية» لوزارة الخارجية. في الخمسينيات أساساً صنع بيريز حيثيته في التاريخ الصهيوني، ومن خلال هذه «الديبلوماسية الموازية» التي نجحت في تأمين التسليح الفرنسي لاسرائيل، خصوصاً من جهة تشكيل سلاح الجو بطائرات «ميستر»، في مقابل دعم استخباراتي اسرائيلي لفرنسا في حربها على الثوار الجزائريين، ثم دور حيوي لبيريز الشاب في عدوان 56 على مصر، وفي التقدم باتجاه البرنامج النووي، وانشاء مفاعل ديمونا، وادارة عملية المماطلة حوله، بعد ان وصل الجنرال ديغول إلى الحكم، وحاول جدياً اعاقة القنبلة الاسرائيلية. البرنامج النووي الذي أسس له كل من بيريز وديفيد بروغمان، برعاية بن غوريون، كان سرياً لا يظهر في ميزانية الدولة، ويموّل من شبكة تبرّعات في منأى عن المنازعات البيروقراطية.
لا يعني ذلك ان بيريز كان واقعياً على الدوام. مسعاه في الخمسينيات لانضمام اسرائيل للحلف الاطلسي لم يكن واقعياً، وكذلك مسعاه بعد ذلك لانشاء حلف اقليمي بقيادة اسرائيل، فمن جملة المشاريع غير الواقعية، التي حملها في يوم من الايام ليقترحها على الفرنسيين، مشروع غزو ايراني تركي مشترك للعراق بعد اطاحة الحكم الملكي فيه.
صحيح ان كلا من بيريس وابو مازن يشتركان في حيثية «الرجل الثاني الذي لا ينفع ان يكون رجلاً اول»، لكن الفارق بين بيريز الذي شكل العقل التسليحي والتسليحي النووي لاسرائيل وبين ابو مازن الذي يرمز إلى العقل الدواويني في منظمة التحرير هو فارق شاسع، يجعل من الصعب بعدها تمرير طرفة «نحن العاقلان في بحر من الأمواج اللاعقلانية».
لم يصعد بيريز من العسكر، لكنه صعد من وزارة الدفاع، من «ديبلوماسية وزارة الدفاع»، وبنى رصيده هناك بالتحديد. هناك فقط، وتحت رعاية بن غوريون، عكف على الاسترشاد بالفارق الذي نصحه به الاخير، بين صوابية لينين «اما الحرب واما السلم»، وبين تخليط تروتسكي بين «اللاحرب واللاسلم»، ويبدو مما كتبه بيريز عن نصائح بن غوريون له ان الاخير كان يحاول ان يخفض حماسة بيريز الشاب لليون تروتسكي!
بيد ان بيريز من دون بن غوريون ينصحه ويوجهه لم يعد بيريز. صار كل رصيده بعد ذلك أنه «يروي» عن مؤسس الدولة، ويتقمّصه أحياناً على صعيد الطقوس فقط لا غير. وفي أقل تقدير، بدلاً من الاستمرار في قيادة يسار صهيوني في مواجهة اليمين، تحوّل من دون صعوبة كلامية تذكر، إلى كاهن أيديولوجي لـ»كاديما» وارييل شارون، كاهن أيديولوجي يرفض تشاؤمية اليسار الذي يرى ان «الثورة الصهيونية» هي الآن مغدورة، ويحرص بدلاً من ذلك على تقديم معالم الوصل بين ارث بن غوريون وبين ارث ارييل شارون.
أما كان الأجدى بأبو مازن أن «يداوم» على فانتازيا «الشريك الراحل في عملية السلام اسحق رابين»؟!
٭ كاتب لبناني