استغرقت رحلتنا البرية الي المدينة المنورة عدة ساعات، وكان حظ ضيوف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز جميلا، لأن الرحلة بدأت صباحا وكان ذلك فرصة لمشاهدة الجبال على جانبي الطريق إضافة الي القري الصغيرة، وما أن بدأت الحافلة بالتحرك حتى دخلت في استرجاع ذكريات الأمكنة عبر الأزمان السحيقة. بدأت هذه الذكريات تسيطر عل منذ أن وصلت الي مكة المكرمة. وكانت علامات الطريق كافيه في بعث هذه الذكريات الي حد التزاحم.
قبل قليل تركت ورائي المكان الذي وصفه النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالوادي غير ذي الزرع، حيث ترك أهله هناك، لكنه لم ينس أن يدعو ربه وهو مغادر “ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ” وقد تحقق هذا الدعاء النبوي عبر آلف السنين ولا يزال متحققا حتى اليوم حيث الملايين تتوجه الي البيت العتيق في صلواتها ودعواتها، كما يتمني ملايين آخرون أن يحظوا بجوار هذا المكان ولو لمرة واحدة في حياتهم.
تركت ورائي البيت العتيق، الذي رفع إبراهيم قواعده والذين أتو من بعده، تركت ورائي الصفا والمروة التي سعت فيها زوجة إبراهيم التي أنهكها الظمأ والقلق على حياتها وابنها، صعدت هنا وهبطت هناك هائمة بين الخوف والرجاء الي أن عادت وهي لاهثة الي ابنها وقد تفجر ينبوع عند قدميه، فسكن قلبها ثم جاءت الطيور والبشر وبدأت حياة جديدة في الوادي.
تلفتّ حولي وأنا أسعى بين الجبلين ورأيت هذا البحر الهائج من الحجاج الذين يقتفون أثر هذه المرأة العظمية، ويحيون ذكراها بعد أن كرمها الإسلام وجعلها في صلب هذا الركن الأساسي من أركان الإسلام ودعوت المولي أن ينزل السكينة في قلبي وفي قلوبهم وأن يفجر لكل واحد منهم ينبوعا يماثل ينبوع زمزم لزوجة إبراهيم وابنها. اللهم آمين.
في ذلك الوقت كان النبي إبراهيم يخوض معركة الثقة بالله مع الشيطان الذي ظهر له وإبراهيم في طريقه الي حيث أمره الله وذكره الشيطان بوله وزوجته اللذين تركهما في الوادي، ورماه إبراهيم بالسلاح الوحيد الذي كان يملكه وهي الحصى والتعوذ بالله من غواية هذا المخلوق الملعون. وفي وقفة عرفات شعرت بصدي كلمات الرسول الكريم ونصائحه الأخيرة للمؤمنين وهو يذكرهم بأن لا فضل لعربي علي عجمي والعكس الا بالتقوي وليبلغ الشاهد منكم الغائب!
كل هذه الذكريات كانت تسيطر على وأنا أتنقل بين أعمال الحج، وها أنا اليوم أتركها لأدخل في ذكريات أخري ستظل تلازمني في الطريق الي المدينة المنورة مع كل جبل وعطفة وحجر ونخلة وبيت. وكان برفقتي في الرحلة جماعتان إحداهما زملائي من ضيوف خادم الحرمين الشريفين الذين وفدوا من ستين دولة حول العالم، والثانية محبو الرسول الكريم من المداحين الذين يرجع الفضل إليهم في حفظي لشمائل الرسول الكريم وتاريخه ومآثره حتى قبل أن أعرف مؤلفات السيرة والتاريخ.
كان حديث الرفقاء الي بعضهم البعض يخف كلما اقتربنا من المدينة المنورة، وغشيتنا لحظات طويلة من الصمت والتأملات والجميع كان يستعد للوصول الي المدينة المقدسة علي ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وجدت نفسي أردد ما حفظته طفلا من قصيدتين مهمتين أعتبرها حتى الآن من أفضل ما قيل في مدحه وتعداد شمائله. وجدت نفسي أنشد أبياتا من قصيدة الهمزية لشرف الدين البوصيري (ت 1295م) إمام المادحين الذي قال:
أطرب السامعين ذكر علاه **** يا لراح مالت به الندماء
كل وصف له ابتدأت به استو**** عب أخبار الفضل منه ابتداء
النبي الأمي أعلم من أســـــ**** ـند عنه الرواة والحكماء
رحمة كله وحزم وعزم **** ووقار وعصمة وحياء
لا تحل البأساء منه عري الصبــ***ـــر ولا تستخفه السراء
عظمت نعمة الإله عليه **** فاستُقلّت لذكره العظماء
وسع العالمين علما وحلما**** فهو بحر لم تعيه الأعباء
أي نَور وأي نُور شهدنا **** يوم أبدت لنا القباب قباء
فر منها دمعي وفر اصطباري **** فدموعي سيل وصبري جُفاء
فتري الركب طائرين من الشو**ق الي طيبة لهم ضوضاء
فكأن الزوار ما مست البأ**** ساء منهم خلقا ولا الضراء
كل نفس منها ابتهال وسؤل **** ودعاء ورحمة وابتغاء
ووجدتني أيضا أردد ما قاله الشاعر الصوفي عبد الرحمن الزيلعي المقدشي (ت1858) وهي قصيدة رائعة تقطر حبا للرسول الأعظم : قال….
ألا يا رسول الله قلبي متيم **** بحسن بدا في وجهك المتلمع
ألا يا رسول الله انت اعتمادنا **** وأنت رجانا عند كل مروع
إذا شرب العشاق قهوة ذكركم **** يهيمون شوقا للغناء الموسع
إذا ذكروا جيران سلع تسابقت **** دموعي وفي قلبي يزيد تولعي
فلولاكمو لم يُذكر الثور أو قبا **** ولا كان ذكر للعذيب ولعلع
سقي ربنا تلك المنازل والربا **** وجاد بجود هاطل ذي تهمع
تعالوا بنا يا عاشقين نزوره **** نفز بوصال ثم خير مجمع
هو الهاشمي المصطفي الطاهر الذي **** شريعته سمحاء ذات توسع
محمد الهادي الي خير منهج **** سراج الهدي ماح بنور مشعشع
هنيئا لكم يا أهل طيبة فزتمو **** ونلتم جوارا بالحبيب المشفّع
أيا سيد السادات نحن ضيوفكم**** فجودا علينا بالقراء الموسّع
مررنا بأماكن كثيرة ارتبطت بالرسول الكريم وبصحابته من بعده والتابعين، وعندما وصلنا الي الحرم النبوي رُفع أذان صلاة العصر، وتخيلت وكأنني أسمع آذان بلال، والصحابة الكرام يتوافدون الي المسجد من الحقول والأسواق القريبة لأداء الصلادة خلف الرسول الكريم. أكاد أسمع صدي أصواتهم وهم يتبادلون السلام.
هنا مر أبوبكر وعمر وعلى وعثمان، وهنا وقف أبو عبيدة وهو يربط ناقته للحاق بالصلاة، وهنا جلست عائشة وهي تغسل ثياب الرسول وتحدث الناس في أمر دينهم، نعالهم مرمية هنا وهناك، وفؤوسهم ورماحهم ملقاة هنا أيضا، اشم رائحة عرقهم وهم يعملون في حقولهم أو يبتغون فضل الله في البيع والشراء.
هنا جلست وفود الملوك والقبائل وأصحاب الأديان المختلفة لمقابلة الرسول الكريم، وبحثت عن المكان الذي بال فيه الأعرابي ومنع الرسول أصحابه من إيذائه وأمرهم بأن يصبوا على المكان ذنوبا من ماء ويفهمه بأن المساجد بنيت للصلاة وليس لقضاء الحاجة!
بحثت عن مجالس أصحاب الصفة وأبو هريرة وأبو ذر الغفاري، أجري أيضا وراء سبطي الرسول الحسن والحسين وهما يداعبانه ويملآن المكان فرحا وحبورا، أبحث عن فاطمة الزهراء، لكي أنظر الي يديها المتعبتين من تدوير الرحي، بحثت عن كل شخص وكل مكان أسعفتني به الذاكرة، وعندما حان وقت الانصراف نطرت الي القبة الخضراء والساحة المهيبة أمامها وأدركت معني قيام بعض زوار الكعبة أو المسجد النبوي عندما ينصرفون من الكعبة أو الحضرة النبوية حيث كانوا يمشون القهقري حتي تختفي الكعبة أو المسجد النبوي من أعينهم وراء النخيل أو المباني ثم يستأنفون سيرهم مسافرين الي بلدانهم ، وهذا تأدبا مع هيبة المكان .
ووجدتني وأنا أنصرف قبل رحلة العودة أنشد هذه الأبيات الرائعة التي لا أتذكر قائلها.
يا خير من دفنت في الترب أعظمـه *** فطابمنطيبهـنالقـاعوالأكـم
نفسي الفـداء لقبـر أنـت ساكنـه *** فيهالعفافوفيـهالجـودوالكـرم
صلى عليك إله العرش مـا طلعـت *** شمس وحن إليـك الضـال والسلـم
وصاحبـاك فـلا ننساهمـا أبــدا *** منا السلام عليهم مـا جـرى القلـم
أنت الحبيب الذي ترجـى شفاعتـه *** عند الصراط إذا مـا زلـت القـدم
تبلي عظامي وفيهـا مـن مودتكـم ** هوى مقيم وشـوق غيـر منصـرم
أتممنا زيارة المسجد النبوي وضريح المصطفي وصاحبيه والبقيع، وسافر ضيوف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، كل الي بلده والجميع يمني النفس بالعودة الي رحاب الحرمين مرة أخري إذا أمد الله في الأعمار.