أتذكر في مثل هذا اليوم قبل 43 عاماً، كنا طلاباً فى المرحلة الثانوية، على أبواب الجامعة، في بدايات الشباب، وفي قرية من قرى الدقهلية، انطلق فى ليل الانتظار الطويل، صوت قوى، معبر، ومفرح، صوت الإذاعي الكبير الجميل صبرى سلامة يعلن من المذياع في بيوتنا الريفية الهادئة: (هنا القاهرة: جاءنا البيان التالي للقوات المسلحة)؛ وبدأت سلسلة بيانات العبور، تأخذنا، إلى عنان السماء، وإذ بقريتنا الهادئة، تتحول إلى شعلة من الحركة والثورة، معلنة أنها جزء من هذه الحرب المنتظرة، وإذ بالقرية الصغيرة، (لم تكن وقتها تزيد عن 5 آلاف نسمة) تقدم 7 شهداء، على شرف التحرير والعبور من مهن وأعمار مختلفة، وأحسب أن هذا كان حال أغلب قرانا ومدننا، لقد ولدنا يومها من جديد ليس جيلنا فحسب، ذلك الجيل الذى ولد مع ثورة عبدالناصر وانتصارات حرب 1956، ولكن الأجيال السابقة والتالية له أيضاً!
أتذكر ذلك اليوم، وكيف أننا ومن دون ترتيب مسبق استبدلنا فى اليوم التالي للسادس من أكتوبر تحية (صباح الخير) بـ(صباح الانتصار). نتذكر اليوم .. ونتذكر ما بعده، كيف يمكننا أن نلخص اللحظة، ونمسكها بأيدينا محاولين أن نعرفها، إن كل المفردات عاجزة، وقتها، عن التغيير لكني ربما اقترب من تشخيص تلك اللحظة من زمان ولى حين أصفها بأنها (عودة للروح) بعد طول انكسار، ويأس. تلك كانت الايام الأولى لحرب أكتوبر 1973، قبل 43 عاماً، عندما عاشها شاب مصري، في بدايات تفتحه السياسي، في ريفها الجميل.. الذي ابتسم بعد حزن طويل!
الآن .. نأتي إلى الحدث، وبعد أن جرت فى النهر مياه كثيرة وحط (الغربان) على الانتصار محاولين سرقته، وتوظيفه فى لعبة أمم جديدة انتهت بكامب ديفيد وأخواتها. وبعيداً قليلاً عن السرقات التي خطفت "الفرح"، دعونا نتوقف قليلاً، اليوم (2016) أمامه لعلنا بتوقفنا نستعيد بعضاً من روح انتصار ذلك اليوم المجيد، والتي ما أحوجنا إليها فى أجواء ربيع زائف، لثورات تمت سرقتها أيضاً من قبل ذات اللصوص وإن تزينوا بلحي، أو خطاب خشبي عن ديمقراطيات صفراء، ممسكة بيد الموساد، عابرة فوق جثث الأوطان ممزقة لجيوشها، التي كانت قبل 43 عاماً ذات يوم تعرف بوصلة واحدة للصراع هي بوصلة الصراع مع الكيان الإسرائيلي، اليوم تعددت وانحرفت البوصلات! بفضل ثوار مزيفين،وإرهابيين بالوكالة عن عدو عتيد.
بعودة استراتيجية إلى حرب أكتوبر/تشرين 1973، نجد الدراسات المتخصصة، وبعضها أتى من مصادر غربية، تقول إن أبرز نتائج حرب أكتوبر على المستوى الداخلي تمثلت في عمق التخطيط العلمي والعملي للحرب مع العدو وأنه كان على مستوى عالٍ ودقيق. فقد استطاعت القوات المسلحة المصرية في الايام الأولى للمعركة أن تحقق هدفاً استراتيجياً لا يختلف عليه أحد وهو (كسر النظرية الأمنية الإسرائيلية)، كما حقق الجيش المصري إلى جانب الانتصار الاستراتيجي، انتصاراً آخر على مستوى العمل العسكري المباشر متمثلاً فى (عملية العبور التى اكتسحت مانعاً مائياً ضخماً - خط بارليف - فى 6 ساعات) ثم دخلت لعدة أيام في معارك بالمدرعات والطيران، وأمنت لنفسها عدة رؤوس جسور داخل سيناء وألحقت بالعدو خسائر وصلت إلى ربع طائراته وثلث دباباته تقريباً في ظرف أسبوع واحد من القتال.
وداخلياً أيضاً وعلى مستوى الجندي المصري فجرت الحرب والظروف التي نشبت فيها طاقة إنسانية لم يكن أحد يحسب لها حساب، أو يخطر بباله أنها موجودة على هذه الدرجة من الاقتدار والبطولة ، عند الجندي والضابط المصري، ولقد عايشت بنفسي نماذج حية لها، سواء في قريتي الصغيرة بريف الدلتا، التي قدمت عشرات الشهداء والجرحى والمقاتلين المقتحمين خلف خطوط العدو، أو على مستوى الخدمة العسكرية لاحقاً حين أديتها في أكاديمية ناصر العسكرية العليا، واقترابي وقتها من نماذج بطولية فذة، كانت لها بطولات استثنائية تستحق التذكر والذكر، وزادت الحرب من تماسك الجبهة الداخلية ورفضها للتدخل الأجنبي والمساهمة في دفع عملية الاقتصاد خطوات للأمام وإحساس الناس بالوحدة والتضامن بعد طول صبر على الاحتلال ومجيىء النصر، صحيح قام (السادات) لاحقاً ومن بعده حسني مبارك بتوظيف هذا النصر في اتجاه معاكس لما خطط من أجله ولما قُدمت في سبيله من أرواح، حين جعلوه في خدمة الانفتاح والرأسمالية، وكامب ديفيد و99% من أوراق اللعبة التي في أيدي واشنطن، لكن (لحظات الانتصار) هي التي تهمنا هنا مع أخذ العبرة من تاريخ الغدر والخيانة وسرقة الأفراح الذي تلاها.
أما على المستوى العربي فقد أعاد نصر أكتوبر للشارع العربي ثقته في ذاته، بعد أن كانت تجتاحه حالة من الإحباط الشديد إثر هزيمة 1967 والتي رافقها العديد من المظاهر الاجتماعية السلبية في الوطن العربي، ومن النتائج أيضاً أن المواقف العربية خلال الحرب أظهرت وعداً بعصر عربي جديد تتحد فيه كلمتهم ضد العدو، وفي الحرب استخدمت كل أسلحة الحرب من اقتصادية (النفط) إلى السياسية والثقافية (الأدب والموسيقى والشعر .. إلخ). أما على المستوى الإسرائيلي فقد انكسرت نظرية الأمن الإسرائيلي على المستوى الاستراتيجي والتي تقوم على عدة مرتكزات أبرزها، التفوق الكيفي أمام الكم العربي، ولقد أحدث انكسار هذه النظرية صدمة عسكرية وسياسية لم يسبق لها مثيل في التاريخ القصير لدولة الكيان الإسرائيلي، وقد أدى ذلك بدوره إلى تفكك تركيبة القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل، وتمزق العلاقات في ما بينها وبدأت مرحلة تبادل الاتهامات وتصفية الحسابات .
وعلى مستوى الرأى العام الإسرائيلى أدى انكسار وهزيمة المنظومة العسكرية والأمنية، إلى سقوط أساطير إسرائيلية كثيرة على رأسها الجيش الإسرائيلي الذى لا يقهر، والذي كان أمل إسرائيل وموضع اعتزازها الأول، وأيضاً سقطت صورة المخابرات الإسرائيلية التي كانت غائبة عن مسرح الأحداث بالمعلومات والكشف والتحليل. كما سقطت شخصيات إسرائيلية كانت مثل أصنام لدى الرأي العام الإسرائيلي ومنها غولدا مائير وموشي ديان.
ولقد أدت الحرب في شهورها الأولى وقبل أن يسرقها لصوص (كامب ديفيد) والانفتاح الرأسمالي، إلى جعل إسرائيل مرغمة على الاستمرار في عملية التعبئة العامة لدعم خطوطها العسكرية، وكان ذلك يعني أن عجلة الانتاج الإسرائيلي في الزراعة والصناعة والخدمات توقفت، أو أصبحت على وشك التوقف. لقد كان لحرب أكتوبر نتائج عديدة، مصرياً وعربياً ودولياً، أغلبها كان إيجابياً بالذات في تلك الشهور والسنوات القليلة التي تلتها، قبل أن تقتحمنا (كامب ديفيد 1979) بمقدماتها الكئيبة.
لقد أعادت حرب أكتوبر 1973 روح التحدي والصمود إلى الشخصية المصرية والعربية، ولو قدر لها – وقتها – أن تجد رجال كبار، في قائمة وقيمة عبد الناصر مثلاً الذي بذر البذور العسكرية الأولى لهذه الحرب، ومن خلفه الجنرالات الكبار (عبد المنعم رياض – محمد فوزي أحمد بدوي وغيرهم)، لما كان المصير العربي (والمصري في قلبه) كما كان عليه في عهد السادات ومبارك.
على أية حال، إن إرادة الصمود والنصر هي ما نحتاجه اليوم في مصر والمنطقة، بعد زلزال ثورات ما بعد 2011، إن المؤامرة الدائرة الآن رحاها في سوريا وسيناء، والتي تستخدم داعش وأخواتها، لتفكيك الدول عبر استنزاف الجيوش، وإشغالها! لن نستطيع مواجهتها إلا بروح أكتوبر 1973، سواء من خلال عودة الحلف المصري السوري في بواكيره الأولى المقاومة والمخططة لبدء الحرب على عدو مشترك، قبل أن يلعب رجال كامب ديفيد لعبتهم في سرقة الحرب، أو عبر روح الصمود الداخلي في مواجهة تنظيمات متأسلمة مجرمة، ثبت يقيناً أنها على تمارس وظيفي واستراتيجي مع تل أبيب وواشنطن.
إن المتأمل للمشهد السياسى العربي اليوم وحال الفرقة والوهن، والتشرذم يخلص، ومن دون مبالغة إلى أن روح (أكتوبر) التي خبرناها ونعرفها، هي وحدها اليوم (2016) القادرة على هزيمة الدواعش في بلادنا، سواء داعش العبرية (الكيان الإسرائيلي) أو داعش العربية، تلك التي تعيث فساداً من العراق إلى جند الخلافة في الجزائر مروراً بـجماعة (عقبة بن نافع في تونس وأنصار الشريعة في ليبيا وانتهاء بـ(ولاية سيناء) في مصر.
وحدها روح أكتوبر 1973القادرة على المواجهة، ولو أدرك " أولي الأمر " في بلادنا خاصة فى سوريا ومصر ذلك، لنجوا .. ونجت معهم المنطقة وهو ما نـتمناه وندعو إليه!
رفعت سيد أحمد