لماذا لا يتعمّق إعلامنا وسياسيون فى جذور الظواهر التى تهدّد أمننا القومي؟ لماذا نكتفي بالقشور والآراء السطحية ؟ أمامنا اليوم واحدة من أخطر الظواهر السياسية الدينية، داعش، تُمثّل نموذجاً لما نقوله عن خفّة وسطحية إعلامنا وساستنا العرب عندما يقترب منها بالتشخيص أو العلاج !! فما قصتها بعمق ؟
إن داعش، كتنظيم إرهابي ليس ابن اليوم، لكنه نتاج تراكمي ومُحصّلة نهائية لتنظيمات وأفكار سبقته، ويأتى تنظيم " القاعدة " كأحد أهم هذه التنظيمات المؤسّسة خلال الثلاثين عاماً الماضية. إن قصة " داعش " طويلة، ومُعقّدة، وهى تحتاج إلى معرفة مستقبلها، والمخاطر القادمة مع أجيالها الجديدة، بعد قتل أغلب المؤسّسين لها (قتل 23 من 31 هم إجمالي المؤسّسين لهذا التنظيم) منذ 2004 فى العراق !!، تحتاج إلى رصد وتحليل وثائقي رصين، استشرافاً للمستقبل وحماية للحاضر الإسلامى والعربى من هكذا تنظيمات.
وصولاً إلى هذه الغاية فلنمحور بحثنا حول الآتي.
أولاً: يتساءل البعض عن حدود وطبيعة الفوارق بين تنظيمى (القاعدة) و(داعش) وباختصار نقول إن (القاعدة) هو التنظيم الأم الذى ولدت منه داعش، وهو نشأ كما هو معلوم فى أفغانستان، تحت عنوان زائف راج فى ثمانينات القرن الماضىي اسمه "نصرة للشعب الأفغاني" وكان قاعدة جذب واسعة المدى جغرافياً، واستراتيجياً، ومثلت العناصر العربية - التى شاركت في تأسيس وقيادة هذا التنظيم لاحقاً في التسعينات والألفية الثانية – قوة وإرهاب دولي بقيادة السعودي أسامة بن لادن والفلسطيني عبدالله عزّام والمصري أيمن الظواهري وغيرهم من القيادات والعناصر الممتدة جغرافياً وعُمرياً، والتي عادت لاحقاً إلى بلادها لتنشر (الخراب) والإرهاب المُنظّم باسم الدين داخل البلاد الإسلامية، بل داخل الغرب وبخاصّة أميركا التي ساعدت التنظيم فى بداياته (والبعض يراه صنعته !!) لمقاتلة الاتّحاد السوفياتي. وكانت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001 هى قمة التراجيديا فى علاقة الصانع بالمصنوع بين واشنطن والقاعدة. بعد ذلك تناسلت من (القاعدة) تنظيمات أخرى عديدة في أغلب البلاد الإسلامية والعربية التي عانت جميعاً من إرهاب تلك التنظيمات التي وإن اختلفت في الأسماء، إلا أنها حملت ذات الأفكار في (التكفير)، واستباحة الدماء المسلمة أو البريئة من الأديان والمذاهب الأخرى، إلى أن جاء الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2004 وبدأت مرحلة جديدة وتنظيمات جديدة، كانت هي البدايات الحقيقية لداعش وأخواتها. إن الاحتلال من ناحية، وابيئة المدعية للتديّن التي خلقها صدّام (انظر إلى العَلَم العراقي وقتها وكيف تعمّد كتابة " الله أكبر " عليه !!) من ناحية أخرى، وتسريح البعث والجيش من ناحية ثالثة، كانت كلها عوامل رئيسة وراء ظهور داعش بعد تشظّى الوطن !! .
ثانياً : يمكن التأريخ لبدايات داعش بالتسلسل الزمني والتنظيمي التالي :
1 – البدايات كانت عام 2004 على يد أبو مصعب الزرقاوي (واسمه أحمد فاضل نزّال الخلايلة) وهو أردني، تكفيري الفكر، قاعدي الاتّجاه، هو من مدينة (الزرقا) في الأردن، أسّس تنظيماً سماه (التوحيد والجهاد) عام 2004 لمقاتلة الشيعة والأمريكان في العراق. ولكن جهاده المزعوم انصبّ على ضحايا أبرياء من العراقيين، ومارس عقيدته (الجهادية !!) بعمليات ذبح وقتل شديدة البشاعة، وفي أثناء ممارسته (جهاده !!) قام بمبايعة أسامة بن لادن وحوّل اسم تنظيمه إلى (القاعدة في بلاد الرافدين)، إلى أن قُتل عام 2006 وتلاه في القيادة كل من أبي عمر البغدادى وأبي حمزة المهاجر وأُسميَ تنظيمهم المُسلّح هذا باسم (مجلس شورى المُجاهدين في العراق) وضم ثمانية تنظيمات أخرى صغيرة ثم لاحقاً أسمي (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق) وفي نيسان/ أبريل عام 2010 قُتل كل من (أبوعمر وأبوحمزة) في عملية مُشتركة للجيشين العراقي والأمريكي. وبعد عشرة أيام اختير أبو بكر البغدادي (واسمه إبراهيم عواد البدري) أميراً لهذا التنظيم، وجدّد البيعة لتنظيم القاعدة ولأسامة بن لادن، ومارس إرهاباً شديداً ضدّ الأهداف المدنية في العراق (البنك المركزي مثالاً) وضدّ الشيعة، وكان جزء من عملياته ضدّ الأميركيين ولكن على استحياء. ويتردّد أنه تم تجنيده أمريكياً عندما كان مُعتقلاً في سجن (بوكا) وأن العناصر القيادية في تنظيمه هم من خرّيجي هذا السجن، بالإضافة إلى (سجن أبوغريب !!) والتميّز الرئيسي لتنظيمه عمن سبقه من تنظيمات مُتطرّفة هو أنه بات يسيطر على أرض وجغرافيا، ولم يعد تنظيماً عابراً بالأفكار والتنظيمات السريّة للحدود كما كان تنظيم القاعدة !! .
2 – في العام 2011 بدأت المؤامرة على سوريا وتكالبت (83 دولة مع عشرات التنظيمات الإرهابية قدّرها الأخضر الإبراهيمي مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا خلال عام 2012 بـ1300 تنظيم إرهابي) كان أقواها تنظيم ما سُمّي بجبهة النصرة التي تمولّها وتدرّبها دول الخليج وتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل حيث عالجت جرحاها لاحقاً. وقيل في نشأتها على يد أبو محمّد الجولاني أن أبا بكر البغدادي هو من أرسله عام 2011 إلى سوريا وقيل العكس بأن (القاعدة) بقيادة أيمن الظواهري هي من أسّست فرعها في سوريا على أيدي (الجولاني) .
حاول (البغدادي) أن يستغلّ الأحداث ويستفيد منها ويقوّي تنظيمه في العراق ويستثمر ثروات النفط المُهرّب ومخازن السلاح، فأسرع في 2013 لضمّ جبهة النصرة إلى تنظيمه ليصبح مُسمّاه (الدولة الإسلامية في العراق والشام) وحروفه الأولى هي (داعش).. إلا أن الخلاف دبّ لاحقاً بين (النصرة) و(البغدادي) لتنفصل الأولى وتؤسّس مع جماعات تكفيرية وإرهابية أخرى منها (أحرار الشام) و( نور الدين زنكي) ما سُمّي بـ(جيش الفتح) الذي ثبت لاحقاً وبالوثائق أنه أحد أذرع المخابرات الأمريكية في سوريا وأن تمويله (خليجي) وتسليحه تركي/أمريكي. وكانت حلب والحدود مع العدوّ الصهيونى بالجولان هي أماكن تواجده الرئيسية.
إنها إذن دراما النشأة، وصِراع الدم بين أخوة الجهاد المزعوم من (أبو مصعب الزرقاوي حتى أبوبكر البغدادي) ولنتأمّل هنا دلالة إصرارهم على الكنية الإسلامية لأسمائهم والتي تعطي قداسة لا حق لهم بممارستهم الإرهابية في أن يتسمّوا بها، أو أن يسمّوا تنظيماتهم الإرهابية بتلك الأسماء الإسلامية الرنانة !!.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً