ليلة مع الدعاة | صحيفة السفير

ليلة مع الدعاة

سبت, 15/10/2016 - 13:12

جرت العادة في كل سنة أن يعتكف الناس في العشر الأواخر من رمضان طلبا لمضاعفة الأجر وتحريا لليلة القدر التي هي خير من أهل شهر. ففي الحديث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه))؛ متفق عليه..

وكنت من ضمن هؤلاء وقد جدث أن صادف ليلة اعتكافي مجموعة من الدعاة كانت خارجة قبلي في مسجد الرحمة والعون بدار النعيم  مدة عشر أيام..
وبما أنني اعتكفت ليلة 26  و27 فقد جمعتني مع هذه الجماعة الفاضلة ليلة كاملة كنت في طرف المسجد تبعا لأخلاقيات الاعتكاف تلك السنة التي باتت منسية مثل غيرها من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم..
وكانوا هم في الطرف الآخر ...وفي هذا الوقت وبدافع الفضول وحب التطلع الذين يلازمان الكاتب دائما قلت لنفسي لماذا لا أطلع على خصوصيات هؤلاء في حدود مايسمح به الاعتكاف...؟!
  هذ الجماعة عبارة صورة مصغرة لجماعة الدعوة والتبليغ التي عادة ما تتواجد في المساجد للموعظة والذكر...مطالبين المصلين بعد كل صلاة بالخروج للدعوة بعد الانتهاء من الصلاة بكلمتها المعتادة:
(تعلمون أن صلاحنا في هذه الدنيا الفانية والأخرى الباقية هو بامتثال أوامر الله على طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم).
رجعت إلى المصادر والمراجع ابحث عن تاريخ هذه الجماعة ومفهومها للحياة,
التأسيس:
  تأسست جماعة التبليغ عام 1926م ، على يد  الشيخ/ محمد إلياس الكاندهلوي (1303 – 1364 هـ)، والذي وُلد في كاندهلة، قرية من قرى سهارنفور بالهند  وقد انتشرت الجماعة سريعا في الهند ثم في باكستان وبنغلاديش، وانتقلت إلى العالم الإسلامي والعالم العربي،  وبعد ذلك انتشرت دعوتها في معظم بلدان العالم، ولها جهود في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام في أوروبا وأمريكا..
ثانيا:أصولها:
يرى مؤسسو الجماعة أن  سيرة النبي(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه (رضي الله عنهم) لا تخرج عن الأوصاف الستة التالية:
(1) :شهادة لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وفي ذلك صدق اليقين على الله والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بالصورة والسيرة والسريرة
   يدعون الناس الى توحيد الله وعبادته دون الخلائق والى اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الى الناس كافة يبينون للناس قدرة الله في خلقه وان الخلائق كلها في قبضة الله مستدلين بالقرآن والسنة الصحيحة..
  يؤمنون بالله وملائكته وبجميع الكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء: الزبور والتوراة والانجيل والقرآن والقدر خيره وشره واليوم الاخر  وبالجنة  والنار  ويدعون الناس إلى ذالك...
يعرفون بشمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا.. 
  ينهون عن المنكر بدءا  بالأفراد  معتقدين  ان صلاح الفرد صلاح للمجتمع وأن المنكر سيزول تلقائيا..كما يعتبرون الخروج والتبليغ ودعوة الناس أمورا لتربية الداعية ولصقله عمليا...إذ يحس أنه قدوة وأن عليه أن يلتزم بما يدعوا الناس إليه..
(2:الصلاة ذات الخشوع والخضوع...
(3) :تعلم العلم الشرعي حتى يُعرف الله حق المعرفة، وذكر الله حتى تُطرد الغفلة من القلوب..
(4):إكرام المسلمين جميعا وبذل ما يحتاجون اليه بسخاء وطيب نفس، مع التعفف والزهد عما في ايديهم، ويدخل في إكرام المسلمين المحافظة على أعراضهم وأموالهم والكف عن النظر في عوراتهم وتتبع مساوئهم بقصد إحراجهم أو الشماتة فيهم...
(5):أخلاص الأعمال والنوايا لله وحده لا شريك له ومراقبة النفس ومحاسبتها وتعديل مسارها في الحياة، وردها إلى الله كلما غفلت عن ذكره وشكره وحسن عبادته..
(6):الخروج في سبيل الله لنشر الدعوة ، وقد اشترطوا لهذا الخروج أربعة أشياء: الخروج بالنفس، المال الحلال، الوقت الحلال، وبالافتقار إلى الله..
وقد عدد العلامة الجليل مفتي موريتانيا الراحل بداه ولد البصيري هذه الصفات قائلا:
ألا يا دعاة الدين شرقا ومغربـــــــــا         ..  فـؤادي لكـم، فـيكم، و مـنكم تقــربــــا
فكثرة تكرار الحــــــــروف بلاغـــة ..           كمــا في كتـــاب الله أســنى و أنســبـا
فأرجو رضى الرحمن عني بدعمكم  ..         وحســــنى ذوي الحسـنى مقاما مقربـا
وعونا على تطبيق ســــت لديكًـــــم  ..  كتطبــــيق أعـــــمال الأصــــم تقـــربــا
فنـودي بالتــوفــــــــــيق هـذا مـوفق ..       لما جاء في الذكــــــر الحكــــيم مرتـبـا
وتـوراة، إنجـــيل، زبور؛ فــــــكل ذا ..       عليــــــــه مـــدار الديـــن طــــرٍّا تـركبـا
هــو العلـم؛ لا علـمٌ لدى غير عامــل  ..     ومــــن قـــام بالأمـــرين تـــم وأنجــبـــا
فحاســـدكم في غبــطة زان صـنعـــه  ..     وفي غيـــرها عــــاش الحياة معـــذبـــا
ويخـــشى عليه أن يـــرى متــقـــــلبا  ..     بأســــوإ  أطـــــباق الجحــــيم تقـــلبــــا
فلا زلتــم في الأمــــن واليــــمن رتَّعا     .. ودعــــوتكم تمـــتد شــــرقا ومغــــربــــا
وللجماعة أصولا للعمل تعارفوا عليها وتوافقوا على تطبيقها في مجال الدعوة وتقوم في الحضر والسفر وهي:
  إذا خرجوا للدعوة أمروا عليهم احدهم ...يخرجون في جماعات للدعوة في القرى والمدن والبوادي ..وحينما يصلون الى مايسمونه بالمقام ينظمون أنفسهم بحيث يقوم بعضهم للخدمة من طبخ وتنظيف المقام  والبعض يخرج متجولين في الأحياء يطلبون من السكان التواجد في المسجد لسماع الخطبة وعادة ماتكون بعد صلاة العصر أو الغرب..وبعد انتهاء البيان يطالبون المصلين بالخروج في سبيل الله وذالك بتقيد أسماءهم وأخذ أرقام هواتفهم...
  يبيتون ليلتهم في المسجد وبعد صلاة الفجر يقسمون الناس الى مجموعات في يسمى عندهم بحلقات الدرس  يتولى كل داعية منهم مجموعة يعلمهم الفاتحة وبعضا من قصار السور في حلقات لعدة ايام المقام اقلها ثلاثة ايام ...فما فوق..
   وقبل أن تنتهي إقامتهم يحثون الناس على الخروج معهم للتبليغ والدعوة حيث يتطوع الأشخاص سابقي الذكر بمرافقتهم كل بحسب طاقته وإمكاناته...
  يكرمون بعضهم بعضا متحابون في الله ولكن لا يعتمد بعضهم على بعض في النفقات بل كل واحد منهم ينفق على نفسه من ماله الخاص في السفر والحضر..
من صفاتهم قيام الليل والتضرع والبكاء بين يدي الجبار..
لا   يتكلمون في السياسة، وينهون أفراد جماعتهم عن الخوض فيها، وينتقدون كل من يتدخل فيها، ويقولون بأن السياسة هي ترك السياسة
   فالجماعة لها شرط عدم التكلم في السياسيات و الخلافيات وكلام الدنيا…ودلك للمحافضة على القلوب..
    لن ندخل في تجاذبات المذاهب واالطوئف الدينية وإنما سأعرض لحقيقة المحاسبة والتي أقرها العلم الحديث وألزمنا الحجة بها وهي أرقى درجات العبادة بل هي العبادة نفسها..
  تقول العلوم الحديثة أن كلما نلفظ من كلام يحفظ في سجل كامل. وتفسير ذالك أن أحدنا عندما يحرك لسانه ليتكلم, يحرك بالتالي موجات من الهواء تسمى (آكوستيك), كالتي توجد في الماء الساكن عندما نرمي فيه بقطعة من الحجر...
  ولقد ثبت بالبرهان القطعي أن هذه الموجات تبقى كما هي في «الأثير»إلى الأبد, بعد حدوثها للمرة الأولى, ومن الممكن سماعها مرة أخرى,مع أنها لا تزال تتحرك في الفضاء منذ زمن بعيد. ولقد سلم العلماء بإمكان إيجاد آلة لالتقاط أصوات الزمن الغابر قياسا على التقاط المذياع الأصوات التي تذيعها محطات الإرسال.
  غير أن المسالة الكبرى التي واجهوها في هذا الصدد, ليست في التقاط الأصوات القديمة, وإنما التمييز بين الأصوات الهائلة الكثيرة حثي يتمكنوا من سماع كل صوت على حدة...
وقد تغلبوا على هذا الإشكال في الإذاعة فملايين المحطات في العالم تذيع برامج كثيرة ليل نهار, وتمر موجات هذه البرامج في الفضاء, بسرعة 186000 ميل في الثانية.
وكان من المعقول جدا عندما نفتح المذياع أن نسمع خليطا من الأصوات لا نفهم منه شيئا, ولكن هذا لا يحدث, لأن جميع محطات الإذاعة ترسل برامجها كما هو معروف على موجات طويلة.. و قصيرة..ومتوسطة...وهكذا
وبهذا يثبت عندنا قطعا أن كل ما ينطق به الإنسان يسجل وهو محاسب عليه.
إن مناقشتنا لجانب المسألة إنما يؤكد وجود ملائكة يسجلون كل ما ننطق به من كلام مصداقا لقوله تعالى { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }.سورة ق الآية: 18.
وليس القول وحده هو الذي يسجل فعملنا أيضا يسجل على صفحات الكون .
   فالعلم الحديث يؤكد أن جميع أعمالنا- سواء با شرناها في الضوء, أم في الظلام, فرادى أم مع الناس – كل هذه الأعمال موجودة في الفضاء في حالة الصور, ومن الممكن في أية لحظة تجميع هذه الصور, حتى نعرف كل ما جاء به  إنسان من أعمال الخير و الشر طيلة حياته, فقد أثبتت البحوث العلمية أن كل شيء  -حدث في الظلام  أو في النور,  جامدا كان أو متحركا-  تصدر عنه «حرارة»بصفة دائمة, في كل مكان, وفي كل حال, وهذه الحرارة تعكس الأشكال وأبعادها تماما, كالأصوات التي تكون عكسا كاملا للموجات التي يحركها اللسان. وقد تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج من أي كائن, وبالتالي تعطي هذه الآلة صورة فوتوغرافية كاملة للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية كما هو مشاهد الآن في التلفزيون والتقنيات الرقمية عالية الجودة ويمكن استرجاع هذه الصور مرة أخرى...
   ومشكلة هذه الآلات كسابقتها, أنها لا تستطيع تصوير الموجات الحرارية إلا خلال ساعات قليلة من وقوع الحادث. أما الموجات القديمة فلا تستطيع هذه الآلات تصويرها, لضعفها وتستعمل في هذه الآلة( أشعة افرارد) التي تصور في الظلام والضوء على حد السواء.
    ومعنى هذا أن حياة كل منا تصور على مستوى عالمي, كما تسجل آلات التصوير الأوتوماتيكية جميع تحركات الممثلين السينمائيين..أو عن طريق أجهزة التصوير التي ركبتها دول لتجسس على أشخاص في أدق تفاصيل حياتهم وقد أخبرني أحد الخبراء في هذا المجال أن أمريكا وبريطانيا ينفردان بالتصنت على جميع مكالمات العالم.. وفي آخر إحصاء لخطوط الهواتف بلغت خمسة مليارات خط هاتف في جميع أنحاء العالم وهذا الرقم قابل لزيادة باستمرار.. والغريب أن هذه الدول هي التي كانت تتخذ من حرية الإنسانوالعالم الحر عنوانا براقا تتستر ورائه, وتناسى هؤلاء أو غاب عنهم أن هذا  الستار شفاف وقد فضحته أجهزتهم يقول الشاعر:
        ثوب الرياء يشف عن ما تحته         فإذا التحفت به فانك عاري
  ومن هذا نصل إلى أن جميع تحركاتنا تسجل على شاشة الكون ولا يمكننا منعها أو الهروب منها, سوا أكنا في النور أو في الظلام. فحياتنا كالقصة التي تصور في الاستديو, ثم نشاهدها على الشاشة بعد حقب طويلة من الزمن, وعلى بعد كبير من مكان التسجيل, ولكنك تشعر كأنك موجود في مكان الأحداث, وهكذا  شأن كل ما يقترفه الإنسان, وشأن الأحداث التي يعيشها فان فيلما كاملا لتلك الأحداث نعيشه واقعا منذ الولادة وحتى الموت ويمكن عرضه في أي وقت...
  وتأسيسا على ما أسلفنا فان أجهزة الكون تقوم بتسجيل لكل أعمال الإنسان, فكل ما يدور في أذهاننا يحفظ إلى الأبد, وكل ما ننطق به  من كلمات يسجل بدقة فائقة, فنحن نعيش أمام كاميرات تشتغل دائما, ولا تفرق بين الليل والنهار مثل موبايلك الذي يضبط كل ما تقوم به بدقة تامة علمت ذالك أم جهلته.
  وعليه فان العلوم لم تترك لنا أي خيار ولم يبقى أمامنا إلا أن نسلم بأن قضية كل منا سوف تقدم أمام محكمة إلهية وبأن هذه المحكمة هي التي قامت بإعداد هذا النظام العظيم لتحضير الشهادات التي لا يمكن تزويرها.
ونرتل بكل خوف وإجلال قوله تعالى:
  ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ﴾الكهف الآية:49
والعلاقة الوحيدة الصحيحة بين الناس ورب الناس هي إسلام الوجه له, وإحسان الاستمداد منه, والاعتماد عليه, واعتبار الدنيا مهادا للآخرة وجهادا لكسبها.
  والإسلام حسب الحديث الصحيح هو:شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا "   و الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ". والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يــراك" رواه البخاري.
  عندما نعيد قراءة هذا الحديث النبوي الشريف مرة أخري  بتمعن , وتفكر في معانيه لا بد أن يستوقفنا سؤال جبريل عليه السلام عن الإحسان .. وجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثلاثة لا يكلهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر"، مسلم.
  فالعدوان على الأعراض فاحشة فإذا أصابت هذه الفاحشة امرأة الجار كانت أعظم، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الزاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه، ويقول له أدخل النار مع الداخلين" بن أبي الدنيا.
إن من أبغض الناس إلى الله، امرءا يظهر بين الخلق بالصلاح والخشوع فإذا أمكنته رذيلة وهو منفرد لم يتورع عن الإيغال فيها.
عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال تهامة، بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا". قال ثوبان يا رسول الله، صفهم لنا جلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هم فإخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها". ابن ماجه.
والعقوبات المعجلة أو المؤجلة سياط لابد منها لقمع الغرائز الشرسة في الحياة الإنسانية والإجرام الفردي والدولي لا تعني في رده الخطب والنصائح، بل لابد من حسم الشر بالشر ولابد من التخويف بالأذى القريب أو البعيد لفطام الناس عن شتى الأهواء الخبيثة إن الإسلام يريد أن تستقيم أجهزتك النفسية أولا، فإذا توفرت لها صلاحيتها المنشودة بصدق اليقين وسلامة الوجهة، فكل عمل تتعرض له في الحياة يتحول من تلقاء نفسه إلى طاعة. ولن تصل إلى هذا إلا إذا كنت دائما تحاسب نفسك بنفسك.
  فما من عمل هام إلا وله حساب يضبط دخله وخرجه، وربحه وخسارته. إلا حياة الإنسان فهي وحدها التي تسير على نحو مبهم لا يُدرى فيه ارتفاع أو انخفاض.
هل يفكر أكثرنا أو أقلنا، في إمساك دفتر يسجل فيه ما يفعل وما يترك من حسن أو سوء؟ ويعرف منه بين الحين والحين رصيده من الخير والشر؟ وحظوظه من الربح والخسارة؟!
لو أننا نخبط في الدنيا خبط عشواء، ونتصرف على ما يحلو لنا، دون معقب أو حسيب، لجاز علا تفريط وحمق أن نبعثر حياتنا كما يبعثر السفيه ماله، وأن نذهل عن الماضي وما ضم من تجارب وأن نقتحم المستقبل متهيبين خطأ أو خطيئة!!
فكيف ولله حفظه يدونون مثقال الذرة، ويعدون لنا قوائم بحساب طويل...
أما يجب أن نستكشف نحن هذا الإحصاء الذي يخصنا وحدنا؟!
أما ينبغي أن نكون على بصيرة بمقدار ما نفعل من خطأ وصواب؟
الحق أن هذا الانطلاق في أعماق الحياة دون اكتراث بما كان ويكون، أو الاكتفاء بنظرة خاطفة لبعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة، الحق أن ذلك نذير شؤم.
وقد عده القرآن الكريم من الأوصاف البهيمية التي يعرف بها لمنافقون الذين لا كياسة لديهم ولا يقين﴿أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرةأو مرتين﴾ .سورة التوبة آية 126
وعلماء التربية في الإسلام متفقون على ضرورة محاسبة المرء لنفسه تمشيا مع طبيعة الإسلام، وإنفاذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم" الترمذي.
وقوله: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله" المنذري.
   ولتفسير أكثر لمسألة: " المحاسبة" نجد أنه اليوم لم تعد هناك حجة لمن كانوا يوما يعملون في الخفاء, ولا يلتفتون للتحذيرات الشرعية. وذلك عندما أصبح المسجل والكاميرا جزء من حياتنا اليومية. أي أن أقوالنا وأفعالنا تسجل على شاشة الكون ولا يمكننا التهرب منها سواء كانت حسنات أو سيئات فهي مثل فاتورة الهاتف التي يعطيك البريد بعد تهربك من الدفع فان سجل كامل لتلك المكالمات يعرض أمامك ولا يسعك أن تتهرب منه وما يقال عن الكلام يصدق على أعمالك سواء في الظلام أم في النور..
    إن المجتمع بكل أطيافه يبذل جهودا ضخمة للتنفير من الجرائم, عن طريق االترغيب والتخويف بالحساب والعقاب والجنة والنار..ولكن النسبة المرتفعة للجرائم المتزايدة يوما بعد يوم تدل على أن مايقوله أولائك الفقهاء والحكماء ليس رادعا,حتى يمنع المخالفين من القيام بجرائهم.. فما كثر ماقيل في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة أن تقديم الرشوة وقبولها وان استغلال الوسائل الحكومية لصالح الأغراض الفردية خيانة وكبيرة لا تغتفر ولكن الوقائع غير ذالك فأنت تشاهد الرشوة تمضي في طريقها على قدم وساق ..والمشروعات الكبرى في تحقيق أهدافها لأن النسبة الكبرى من الميزانية المقررة تأخذ طريقها الي جيوب المسؤليين القائمين بأمر هذه المشروعات,بدلا من انفاقها في مكانها الصحيح. وهكذا اختفت المعايير والقيم من الحياة رغم كل الجهود التي بذلت من جانب المصلحين والفقهاء والزعماء, وباءت كل الوسائل التى استخدموها بالفشل الذريع..
  لذا كان لزاما عليهم أن يأخذوا ما أسلفنا من الحقائق كمنطلق لأقوالهم وحججهم..
  وهذا ما سيكون وازعا في المجتمع يمنع الناس من ارتكاب الجرائم,لأن الرشاوي ,والمحسوبيات, وخدمات المحامين البارعين, وشهود الزور كل هذه العوامل تكفي لحماية المجرم من أية شرطة أومحكمة إنسانية, والمجرم لايرهب عقابا, لو استطاع أن يفلت من أيدي القانون.
( إن الشرع الإلهي يستوفي كل هذه الأمور, فعقيدة الآخرة التي يحملها الشرع الالهي, هي خير وازع من ارتكاب الجرائم, وهي تكفي لتبقي إحساسا بالجريمة واللوم يعتمل في فرارة ضمير الإنسان, لو أدلى بشهادة كاذبة أمام القاضي .
   والوازع الذي يمنع من ارتكاب الجرائم ليس هو الدين في حد ذاته, فانه لايقدم لنا تشريعا فحسب, وإنما يخبرنا أن صاحب هذا التشريع يشاهد كل أعمالنا من خير وشر كما تقدم آنفا..فنياتنا وأقوالنا وحركاتنا بأكملها تسجل بواسطة أجهزة هذا المشروع, ولسوف نقف بعد الممات أمامه,ولن نستطيع أن نفرض ستارا على أدق أعمالنا.
  ولو أننا استطعنا الهروب من عقاب محكمة الدنيا, فلن نتمكن بالتأكيد من أن نفلت من عقاب صاحب التشريع السماوي). 
    فأنت أمام عدسات تعمل ليلا ونهارا بدون كلل فحاسب نفسك عزيزي القارئ قبل فوات الأوان وعند محاسبة المرء نفسه سيتعرف إليها جيدا ومن عرف نفسه عرف ربه، ويهذب أخلاقه وسلوكه، حيث يرتقي إحساسه بالآخرين، وتصبح تصرفاته أكثر نعومة وأناقة
وشفافية، وبذلك يطبع بطابع المدنية التي هي روح يسري في كيان الفرد، فيعطيه طابعا خاصا يلمسه الناس في كل شؤونه: في طريقة كلامه، وعباراته المنتقاة، وفي طريقة استماعه وتناوله لفرصة التحدث، وفي كيفية قيادته لسيارته، وفي كيفية تنبيهه للمخطئ، وفي طريقة حصوله على حقه، وحله مشكلاته، بالطرق السليمة إذ أن من أهم سمات الإنسان المتمدن أن يبحث باستمرار عن طرق مشروعة وغير عنيفة لتجاوز التعارض بين مصالحه ومصالح الآخرين.
   فهل نتخذ من هؤلاء القوم نبراسا نهتدي به كطوق آمن في مواجهة التشيع والحركات التكفيرية والتنصيرية والإلحادية التي باتت تغض مضاجع مجتمعنا؟ وقد يظن البعض أنني من الجماعة فأنا لا أنتمي إليها ولم يسيبق لي الخروج معها إنما كان أول لقائي بها عن كثب ليلة اعتكافي بحثا عن ليلة القدر في جانب المسجد والجانب الآخر كنت أرصد ليلة الدعاة.

الهوامش
الموسوعة الحرة.
*محمد الغزالي:ركائز الإيمان بيت العقل والنقل, دار لقلم دمشق, ط,4 ,1420ها 1999 *محمد الغزالي : جدد حياتك, دار القلم: دمشق , الطبعة 15، 2003 م
* وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى، ترجمة، ظفر الإسلام خان، (مدخل علمي إلى الإيمان)، مراجعة وتقديم، الدكتور عبد الصبور شاهين، الطبعة الثانية، المختار الإسلامي 1964 م.
*عبد الكريم بكار: تجديد الوعي, دار القلم, الطبعة الأولى, 1421 ها ـ 2000 م
* دين الفطرة:استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة انسانية,المرابط ولد محمد لخديم,تصدير الأستاذ الدكتور محمد المختار ولد أباه, رئيس جامعة شنقيط العصرية والشيخ الدكتور أمين العثماني عضو اللجنة العلمية والتنفيذية للأكاديمية الهندية بدلهي الهند,تقديم:الأستاذ الدكتور:أحمدو ولد محمد محمود,رئيس قسم الفيزياء بكلية العلوم والتقنيات جامعة العلوم والتكنلوجيا والطب موريتانيا,والمفكر الاسلامي,سمير الحفناوي جمهورية مصر العربية,الطبعة الأولى الأكادمية الهندية بدلهي سنة 2010م الطبعة الثانية:دار المعراج,دمشق/بيروت سنة 2014م.

المرابط واد محمد لخديم