انتهى قبل أيام موسم «عاشوراء» عند الشيعة، وسط طوفان من الاحتفالات التي شملت دولا كثيرة في العالم، بما فيها أوروبية لم تخلُ بدورها من طقوس كانت مثار اهتمام ودهشة من الناس، أعني تلك التي نُظمت في الشوارع أمام جموع الأجانب، وبشكل أكثر تحديداً تلك التي انطوت على مشاهد مثيرة مثل «التطبير» الذي يعني ضرب النفس والسكاكين والجنازير الحديدية.
نتوقف عند هذه القضية في عدة أبعاد، أولها اتساع نطاق الاحتفالات على نحو استثنائي تجاوز اليوم إلى العشرة الأوائل من محرم جميعاً، وشملت حتى دولا لم يُعرف فيها هذا النوع من الاحتفالات، كما سوريا التي تحوّلت فيها بعض المناطق إلى مدن عراقية شيعية، ولذلك ما له من دلالة سياسية بطبيعة الحال، وثانيها الطقوس التي استخدمت، وثالثها إشكالية التناقض مع نهج الحسين في سلوك المحتفلين به.
لا خلاف على أن طوفان الاحتفالات الذي تابعناه لا ينفصل عن مشاعر القوة التي تتلبس غالبية الشيعة في ظل الهجوم الإيراني على المنطقة، والذي بدأ عملياً منذ غزو العراق، ثم تصاعد بشكل أكبر بكثير إثر الثورة السورية، واتضح أكثر بالسيطرة على اليمن عبر الحوثيين.
البعد الآخر يتعلق بالطقوس، وهنا نشير إلى النقد الذي وجهه نصر الله لبعض أنواع تلك الطقوس التي «تسيء للإسلام وللشيعة ولأهل البيت» في خطاب التاسع من محرم، مشيراً لطقوس غريبة لم يسمع بها كثير من الناس، ويقوم بها من يُعرفون بالشيرازيين في العراق وإيران وسواهما، لكنه مرّ مرور الكرام على «التطبير» رغم بشاعته، ولم يتوقف أبداً عند اللطم (لطم الصدور)، كأنه بات موضع اتفاق.
والحق أن جملة هذه الطقوس لا صلة لها البتة بدين الله، ولا بهدي نبيه، ولا بهدي الأئمة، لكننا نتذكر بالمقابل أن مجمل أدبيات المذهب هي من صناعة القرون التالية، بما فيها القول بالولاية أو الإمامة في نسل علي وفاطمة، والتي ينسفها عملياً قبول الحسين بإمامة معاوية، كما تنسفها قبل ذلك مبايعة علي لعمر وأبي بكر، وهنا تنهض إشكالية كبرى في العلاقة مع السنّة، يسكت عنها الناس وهي اعتبار الإمامة من أركان الإسلام، ما يعني تكفير السنّة، فيما لم يؤثر القول بأنها من أركان المذهب فقط إلا عند محمد حسين فضل الله من المراجع الكبار. البعد الثالث وهو الأهم الذي يعنينا في هذه المرحلة هو المتعلق بالوضع الراهن، لأن قضية الحسين، وقبلها قضية علي والخلافة هي جزء من قضايا سياسية تاريخية لا صلة لها بجوهر الدين، ولو كان النبي مكلفاً بتنصيب علي لقال ذلك صراحة، وليس بنص ملتبس كما في حديث الغدير الشهير، فضلا عن حقيقة أن جوهر الحكم في الإسلام هو اختيار، وليس وراثة كما يرى الشيعة.
المصيبة الكبرى هي استخدام الحسين في سياق يعاكس تماماً جوهر ثورته، أو خروجه على يزيد، فهو خرج ضد حاكم فاسد، كانت جيوشه تقاتل أعداء الإسلام، أما اليوم فيتم رفع رايته في سياق من نصرة طاغية بسوريا ضد شعبه (كانوا ضد الثورة وهي تضحي بالآلاف قبل إطلاقها رصاصة واحدة)، وفي سياق من تشريع سرقة ثورة نبيلة في اليمن؛ بالتعاون مع طاغية أيضاً، ومع ذلك تراهم يقاتلون في هذه السياقات، وهم يهتفون «يا حسين»، وكل ذلك لأن خامنئي رأى ذلك، ولو غيّر رأيه غداً لغيروا.
هي فضيحة بامتياز لمن يرفعون راية الحسين، بينما يقاتلون في جيش يزيد، ويقتلون الحسين من جديد. من دون أن نعدم أصوات شيعية عاقلة تذكّر بذلك، وإن بقيت محدودة التأثير وسط الضجيج المذهبي.
يبقى القول إن جوهر الأزمة هي في العدوان، وإذا كفت إيران عدوانها، فبوسع كل أحد أن يعبد ربه كما يشاء دون استفزاز للطرف الآخر.