قال في معجم المعاني الجامع:" النَّشِيدُ : قطعةٌ من الشعر أَو الزجل في موضوع حماسيّ أَو وطنيّ تنشدُه جماعة ."، والنشيد الوطني، حسب نفس المعجم، " قِطْعَةٌ مُوسِيقِيَّةٌ مُغَنَّاةٌ في حُبِّ الوَطَنِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ." وتعرفه موسوعة ويكيبيديا الحرة.." النشيد الوطني هو عادة مقطوعة موسيقية وطنية تثير وتمدح تاريخ البلاد وتقاليدها ونضالات شعبها." تلكم هي معاني النشيد لغة واصطلاحا، وهي تدور بين الغناء، والحماسة، وهما مجالان بعيدان كل البعد من الوعظ والإرشاد... ومن ثم لا تجد الذائقة السليمة حماسة في الوعظ ولا تستسيغ الإرشاد بالغناء، ومن أراد الجمع بين هذه المتناقضات، فقد خسر الحماس الضروري للإنشاد، ولم يربح الوعظ مطية الإرشاد...
شيء قريب من هذا حدث للقطعة الشعرية التي كتبها الشيخ سيديا باب رحمه الله، عقودا قبل استقلال الوطن، ثم أصبحت "نشيدا وطنيا" لأن وزير التعليم استحضرها حين طالب سيداتي ولد آبه، متعنا الله به، بكلمات كي يضع لحنا للنشيد الوطني... يقول الأستاذ محمد محمود ودادي، فيما يرويه عنه الأستاذ سيد أعمر شيخنا:"الفرنسيون أرسلوا قائد أوركسترا للإشراف على عزف وتلحين النشيد الوطني. وقد التقى هذا الموسيقار بوزير التعليم سيدي محمد الديين الذي طلب من الفنان سيداتي ولد آبه تلحين النشيد الوطني، وحين أراد العزف طلب سيداتي منهم كلمات لما سيعزفه فأكد الفرنسي أنه لابد فعلا من كلمات، وربما من قبيل الصدفة كان سيد محمد الديين يحفظ القطعة التي اقترحها كلمات للنشيد فتم تلحينها وقبلها الفرنسيون لأنهم لا يعرفون معناها وسجلها الموسيقار الفرنسي وذهب بها لتلحنها الفرقة الفرنسية، وليسلم التسجيل لاحقا للإذاعة الوطنية..." ص:54.
تلكم هي الظروف التي أحاطت باختيار كلمات النشيد الوطني للجمهورية الوليدة. أرسل الفرنسيون قائد أوركسترا ليشرف على عزف وتلحين النشيد الوطني. منحة أخرى من "ماما فرنسا." صحيح أن الكلمات الجميلة لأحد علمائنا الكبار، كتبها قبل عقود من الإستقلال، يعظ بها عامة المسلمين في إقيدي، وترانسفال، وألسكا، والربع الخالي، وسيبيريا....، لتصبح بمحض الصدفة وبفضل ذاكرة وزير التعليم رحمه الله "نشيدا وطنيا" ننشد الحماسة في وعظه والوطنية في إرشاده إلى منهج السلف والتحذير من بدع الخلْف... يقول الأستاذ أحمد هارون.."القصيدة المذكورة عامة شاملة في الحث على اتباع الدين الحنيف والثبات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح." فكيف غدت نشيدا وطنيا.." قِطْعَةٌ مُوسِيقِيَّةٌ مُغَنَّاةٌ في حُبِّ الوَطَنِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ، مقطوعة موسيقية وطنية تثير وتمدح تاريخ البلاد وتقاليدها ونضالات شعبها."!!!
يقول الأستاذ ودادي إن الفرنسيين قبلوا الكلمات.." لأنهم لا يعرفون معناها." وربما لم يجد وزير التعليم الوقت الكافي لتدبر معنى النشيد الوطني. وهكذا تضافر الجهل والعجلة ، ومحض الصدفة لإنتاج "نشيد" لا يثير المشاعر، ولا يطرب المسامع... وبالتالي لا تصح نسبته إلى الشيخ سيديا باب رحمه الله. فلم يكن " مؤلف كلمات النشيد الوطني الموريتاني" كما يزعم كاتب سيرته في موسوعة ويكيبيديا الحرة. فقد توفي الشيخ رحمه الله سنة 1924، قبل نازلة "النشيد الوطني" بست وثلاثين سنة. ولو أدركه الاستقلال ما تجرأ وزير التعليم، ولا الرئيس القادم على أن يطلبا منه "تأليف كلمات النشيد الوطني" لأن ذلك من اختصاص الشعراء المحترفين. ولم يكن الشعر، بالنسبة للشيخ سوى مكمل لصفات الفتوة. فالشيخ سيديا باب يعد في طليعة العلماء المبرزين والقادة السياسيين.
إن نسبة "النشيد الوطني" إلى عالم جليل تخرج "النشيد" عن سياقه، وتحوز العالم عن أترابه ليقرن بمن لا يشاكله ولا تليق به صحبته. فمن النشاز نسبة تأليف كلمات النشيد الوطني إلى "عالم وفقيه ومجدد إسلامي" كما تنسب إلى شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا، ومؤلف النشيد الوطني المغربي الكاتب علي الصقلي الحسيني، والشاعر أبو القاسم الشابي... فصلة العلامة الشيخ سيديا باب بنشيدنا الوطني بعيدة جدا. فلا ينبغي المحاماة عن "العظة النشيد" لأن القصيد من تراث الشيخ، وإنما تنبغي الدعوة إلى تطهير الموعظة والإرشاد من مقاصد الحماسة والإنشاد.. فما أرخص الجمل لولى الهرة...
يجادل بعض الخائضين في موضوع الرموز الوطنية بأن النفَس الديني في القصيد يلائم شعار الدولة، وهو ما لم يخطر على بال الذين فرضوا على الموعظة القيام بوظيفة النشيد. فلو كان تأكيد الصفة الإسلامية للدولة شاغلهم ما نصوا في دستورهم، وهو مجال تحديد المرجعية لا النشيد، " على تعلق موريتانيا بإعلان الثورة الفرنسية 1789م، ومبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، ودستور 1946م الفرنسي ودستور الجمهورية الفرنسية الخامسة 1958م." الأستاذ سيد أعمر شيخنا ص: 54.
بل إننا نجد رواية تؤكد أنهم قرروا إعادة النظر في "النشيد الوطني"، والعمل على تغييره. فحسب رواية السفير عبد القادر أحمدو.." شكل الوزير العلامة عبد الله بن بيه لجنة تضم من بين شخصيات أخرى الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله و الشاعر أحمد ولد عبد القادر والأديب الكاتب الخليل النحوي,,, ومنهم من يقول إن مهمة اللجنة كانت تنحصر في إعداد مسابقة لاختيار النشيد الوطني بواسطة مسابقة علنية وبالتعاون مع الإذاعة الوطنية. كان ذلك سنة 1977 ولم تنه اللجنة أعمالها إلى يومنا هذا." لقد شعروا إذن بالحاجة إلى "نشيد حقيقي" خاصة أن نشيد وزير التعليم، الذي عزفته فرقة فرنسية لم يرسم بالقانون نشيدا وطنيا، وإنما تعايش مع أناشيد أخرى فضلها عليه بعض الموريتانيين، دون أن يثير ذلك اعتراض السلطة العمومية...
يعزز عبد القادر روايته بأخرى وردت في كتاب "الوالي المساعد" تأليف الإداري المدني محمد فال عبد اللطيف الذي شارك في مسابقة لاختيار "نشيد وطني".." و هذه المسابقة نظمتها الأمانة الدائمة للحزب و لم ينجح فيها أحد ,, وقد حدثني أحد المقربين من السراي إذ ذاك أنهم عرضوا النصوص المترشحة على الرئيس المختار و لد داداه فلما رأى غالبها يتحدث عن حزب الشعب و شخصيته هو، قال لهم: ما صنع شعراؤنا شيئا، فليس في هذه الأشعار على جودتها ما يصلح لأن يكون نشيدا وطنيا لأنه ليس فيها ما يتحدث عن الثوابت الوطنية؛ فأنا والحزب وما يحيط بنا ماضون والحمد لله وأما الوطن فباق’’’". ربما لو تهيأ مثل هذا الوعي برمزية النشيد الوطني لوزير التعليم لما اختار القصيدة التي انتخبها من ذاكرته، لأنها، على جودتها، لا تصلح " لأن تكون نشيدا وطنيا لأنه ليس فيها ما يتحدث عن الثوابت الوطنية."
خلاصة القول أن من حق الوطنيين الموريتانيين التطلع إلى نشيد وطني حقا يحمل سمات الأناشيد الوطنية التي تخلد أمجاد المجاهدين ضد الاستعمار، وتستثير المشاعر الجياشة نحو الوطن، تحت راية تعبر ألوانها عن معاني التضحية والفداء، وتقول للمتربصين بالوطن، دون النجمة والهلال خطان أحمران... وبذلك يتم إعلان ميلاد الجمهورية الثالثة... جمهورية الهامات المرفوعة في شرف، وإخاء، وعدل...