العلاقة بين الأدب والسياسة علاقة ضبابية تعتا مها الحميمية تارة حين يهبط الأدب من برجه إلى واطئة الأرض، فيعبر عن السياسة بلغتها السوقية، ويلهج ببياناتها المتزلفة البعيدة عن منابع القلب، فتلبسه لبوسها الكاذب، ويهجر مواطن الإحساس، ويتوارى عن خلجات النفوس في ذاكرة من عدم وغلالة من سجف الملل. وتارة يوليها ظهره، وتصعر له خدها فيسمو، وتبقى في دركها تلغط بالحوشي ودرج الكلام.
أما العلاقة بين الأدب والقانون، فعلاقة الضب بالنون، ولا يمكن لأحدهما أن يتنزل منزلة الآخر، أو يقترب من ربوعه إلا أصيب بالزكام، لشديد التنافر بينهما، وللمسافة الفارقة بين اهتمامها ووسائل تعبيرهما والغاية منهما.
راودتني هذه الخواطر وأنا أتابع بكثير من القلق، وكثير من التوجس، وكثير من الإشفاق ما نشر وينشر هذه الأيام في العاصمة نواكشوط من أدبيات ومقولات، حول " الحوار الشامل"، وحول "التعديلات الدستورية"، والأهم من ذلك هذا السيل الجارف من الكلمات حول النشيد الوطني، والعلم.
كثير مما كتب لا يستحق في نظري العناء لأنه إنما يعبر عن انفعالات وأمزجة وتصورات خلفتها أيام العراك السيزيفي بين الحركات السياسية في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وأنجبته "جهويات"، و"فئويات" و"إتنيات" طبخة ديمقراطية التسعينات من القرن الماضي، التي خرجت من رحم نار انطفأت جذوتها قبل أن توقد أصلا.
لكن ما نشره الدكتور اسحاق الكنتي ، وهو كاتب مهتم بالشأن السياسي، وله آراؤه المعروفة والجريئة في بعض الأحيان حول القضايا الحساسة، أثار انتباهي لعدة أسباب: أولا : حديثه الضمني عن "دستورية العلم الوطني"، وهو أمر يحتاج إعادة نظر، فرغم أن المادة الثامنة من ديباجة دستور الجمهورية الإسلامية الموريتاني تنص على أن " الرمز الوطني هو علم أخضر يحمل رسم هلال ونجم ذهبيين،" فمن المعروف أن المسألة هنا لا تعني أن العلم لا يمكن تبنيه أو إلغاؤه دون استفتاء دستوري، فالأمر هنا من باب "تأكيد واقع" أوإقراره، وهو باب واسع يعرفه فقهاء القانون الدستوري، ولامجال للبسط فيه هنا، ووجود فقرة مرادفة لهذه المادة المدرجة في ديباجة الدستور تشير إلى أنه: " يحدد القانون ختم الدولة والنشيد الوطني "، يؤشر بوضوح على هذه البدهية القانونية, وبما أن الدساتير والقوانين والأعراف تؤخذ في العادة من مصادرها الأولى، فإننا نستأنس في هذا الموضوع بملابسات وتاريخ إنشاء بعض الأعلام المرجعية ، وهي دول عرفت دساتير عريقة، وتتمتع بديمقرطيات عتيدة، أمريكا وفرنسا وبريطانيا.
فالعلم الأمريكي: تم تبنيه في شكله الحالي بعد الانفصال عن بريطانيا سنة 1776م ومن المفارقات أن هذا العلم كان اقتراحا من فتى في السابعة عشرة من عمره، فتبنته فرقة من الجيش الأمريكي، ليتم بعد ذلك اعتماده من طرف حكومة الولايات المتحدة ، وتنضاف إليه نجمة عند زيادة الولايات المتحدة بولاية جديدة.
ولم يرد في الموسوعات التي تحدثت عن هذا العلم ما يشير إلى أنه أدرج في استفتاء أو تصويت عام.
أما بريطانيا فقد أخذ علمها شكله النهائي الحالي باسم علم المملكة المتحدة، في 1801م، وقد تم اقتباس ألوان هذا العلم من العلم الإيرلندي، وأضيف إليه صليب القديس بطرس، وما يهمنا في ها المقام أن العلم البريطاني ظل على حاله رغم أن الدستور الأصلي للمملكة المتحدة تم تغيير أغلب مواده.
وقد حاول الملك أدوارد الأول أن يضيف إلى علم المملكة المتحدة رمزا "لويلز" بعد انضمامها للمملكة لكنه قوبل بالرفض القاطع.
أما فرنسا فإن علمها اتخذ شكله النهائي سنة 1848 على يد السياسي والشاعر الفرنسي "لامارتين" الذي رفض ان يتحول العلم إلى لون أحمر كما يطالب الثوار.
المهم أن هذا العلم لم يتغير فقد رفرف على المباني في العهود الملكية الانقلابية، وفي العهود الجمهورية المختلفة، رغم أنه لم يبق من دستور الجمهورية الفرنسية الأولى غير المبادئ العامة، وإلا بعض المواد غير الأساسية.
ما نستنتجه من هذا الاستعراض الطويل أن الإشكالية التي وقعت فيها "نخبتنا" الموالية، و"المعارِضة" الموافقة، وحتى المعارضة المناطحة، هي إشكالية زائفة لأنها صراع على مبدإ لا وجود له في الأصل، فالعلم إنما يمكن تبنيه من قبل أي حكومة، أوبرلمان، وحتى جهة سياسية متحكمة، شرط أن تنال القبول العام، والإجماع الوطني.
كما يمكن لأي برلمان أن يسن قانونا يحدد شعارات الدولة وكلمات وألحان النشيد الوطني، باقتراح منه ، أو باقتراح من الحكومة.
نعود إلى المقال التي اشرنا إليه سابقا لقد بدأ المقال بأن أيا من هذه الرموز(العلم والنشيد وشعار الدولة) لم يكن" حاصل إجماع وطني حول مقترحات توجت باستفتاء شعبي، كما يدعوا إليه المتحاورون اليوم، وإنما تم اعتمادها من طرف نخبة سياسية ضيقة، أحادية التوجه والثقافة" هذه النخبة أحادية التوجه والثقافة هي الرئيس الأسبق المؤسس الأستاذ المختار بن داداه، الذي حصل على صفة المحامي من جامعة فرنسية منتصف القرن الماضي،، والأستاذ محمذن باباه الذي وضع الأسس الأولى للتعريب، وصاحب إصلاح التعليم سنة 1973م، والذي أدخل لأول مرة التعليم الأصلي والثقافة الوطنية دائرة التداول المدرسي، والأستاذ بزيد بن أحمد مسكه، المعروف بمواقفه الوطنية والمتميزة قبل وبعد الاستقلال، والأستاذ إعلي بن علاف الذي اشتهر بإخلاصه في العمل ووطنيته الصادقة، على كل حال سيوافقني الأستاذ الكنتي أنني وإياه وكثير ممن يقبعون الآن في أروقة قصر المؤتمرات يقلبون الأحرف والكلمات على أوجهها، ويسترق كل منهم النظر إلى صاحبه، ليرى قلبه الواجب، لانحلم بالتطاول أو التقليل من شأن هذه "النخبة الضيقة أحادية التوجه والثقافة".
كما لن يشكك وهو العارف بالتاريخ، الضليع بتفاصيله، المتشبع بالثقافة العربية الإسلامية، أن أي صوت لم يرتفع منذ رفرف العلم الأخضر بنجمته وهلاله الذهبيين على ربوع الجمهورية الإسلامية الموريتانية، يفيد بأن ألوان العلم هي تنكر لدماء الشهداء، وأن الحمرة التي تطغى على أعلام بعض الدول هي رمز للتضحية دون هذه الألوان، وبهذا فإن الاستنتاج الذي ورد في المقال بأن "لا مسوغ إذن لرفض تعزيز ألوان العلم بشريطين أحمرين يرمزان لتخليد أمجاد المقاومة الوطنية" (لم لايكون شريطا واحدا حال معظم الأعلام العربية " الثورية"؟)، هو استنتاج قابل لأن يحمل معه نقيضه ، استنتاج تعوزه كذلك المقدمات المنطقية التي تبرره، بقدر ما هو بدهية من البدهيات في حالات تختلف عن حالتنا وعلى أرضية غير رديفة. صاحب المقال بعد أن استبعد التشابه بيننا والباكستان "إذ لا نشبهها"، لأنها على ما يبدو دولة غير عربية، وبالتالي لا مسوغ لمحاكاة علمها ، لم يفطن إلا أنه رجح في النهاية فرضية جلب علمنا الأخضر ذو النجمة والهلال الذهبيين، من علم لوهران عثر عليه المرحوم أحمد بزيد أحمد مسكه، فتم تبنيه، وهذه الحكاية مدونة عندي في الحوارات التي أجريتها مع الأستاذ الباحث المرحوم محمد سعيد بن همدى حول التاريخ الموريتاني الحديث (منشورة في عشرين حلقة في صحيفة الأخبار سنة 2005م ، وضمن كتاب يعد للنشر)، ، أليست وهران مدينة جزائية عربية مائة بالمائة، ومن اللائق أن نحاكيها أو نقتبس منها في علمنا الذي أصبح في هذه الحالة يجمع بين إسلاميته التي اعترف بها أستاذنا الكاتب، وعربيته التي وردت عرضا ، كي لا نقول سهوا.
يتحفنا الكاتب بهذه الفقرة المشبَّعة" فولد باباه ينفر من اللون الأحمر لرمزيته اليسارية، غير المحبذة لدى الحكومة الفرنسية التي "منحت" الاستقلال." تتوقف أنفاسنا قليلا عند هذه المصادرة؛ فلم لا يكون بن باباه عبر عن هذا الموقف لأنه يميني بالفطرة أو بالاكتساب؟ على كل حال يمكن أن نضيف أن ولد باباه هذا؛ والموضوع موثق؛ كان أول شخصية وطنية يلقي خطابا بالعربية باسم الأساتذة في الثانوية الوطنية مما خلق حينها أزمة ديبلوماسية مع فرنسا ، تدخل فيها الرئيس المختار شخصيا؛ دعنا نقول إن الرجل كان يمينيا بالفطرة، أو بالاكتساب لئلا نورط أنفسنا فيما لا طائل من ورائه أما الاستنتاج الذي سيقودنا إلى العلاقة القلقة بين الأدب والسياسة، فهي كون اللون الأحمر شعارا للثورة العربية اقتباسا من قول صفي الدين الحلي: بيض صنائعنا، سود وقائعنا خضر مرابعنا ، حمر مواضينا فلا أعرف لماذا اختار الأستاذ الدكتور اللون الأخير؛ وهو يعرف ربما أكثر مني أهمية الترتيب في رصف الكلمات لإبراز المعنى الأهم؛ الذي ورد في البيت، وليس البيتين، فتجاوز الأبيض الذي يدل على النقاء وعلى الأسود الذي يرفض الماضي الاستعماري، والأخضر الذي هو لون إسلامي خالص باعترافه هو، ويقفز للأحمر دون غيره.. أنا أعرف أن الأستاذ يعرف أكثر مني المعنى العميق لكلمة "حمر مواضينا" إذ ترمز في الموروث الثقافي العربي الخالص للاقتتال والحروب، والاعتداء على الآخر، فالسيوف التي تقطر دما ليست بالضرورة وضعت لأغراض نبيلة..."... وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ مَنْ دَمِي" كما هو عريف كذلك أن الشاعر صفي الدين الحلي الطائي كان من فئة "الرافضة"، ولهؤلاء صولاتهم وجولاتهم في معاني تختلف كثيرا عما استنتجه كاتبنا الموقر والقدير.
عند هذا الحد سأقف مع الأستاذ لأطمئنه على أن المطلوب في مسألة الشعارات والرموز الوطنية يتجلى في أنها موضوع يهم كافة أفراد المجتمع، بغض النظر عن دستوريتها أوعدم دستوريتها، فيجب أن يجمع أهل الرأي المؤثرون على هذه الشعارات والرموز، وأن لا تلج إلى دائرة التداول السياسي، أما وسيلة إثباتها أو عدم إثباتها أو تبديلها فيجب لكي يتم الأمر بسلاسة ويوصل إلى الغايات المقصودة منه أصلا أن تتم في مناخ عادي وطبيعي خال من التجاذب والصراع، بعيد عن الأهواء والأغراض الانتخابية، والصراع على مراكز النفوذ. وإن أنصف صاحبنا الكاتب فسيستنتج معي أن الظرفية الحالية ليست المناخ المناسب لتناول رموز البلد ولو كانت هذه الرموز لم تعد مناسبة للظرفية التي نعيشها.
كما أذكر الكاتب الدكتور؛ من باب التذكير فقط؛ أن مسألة تغيير كلمات النشيد الوطني لم تكن من ابتكار "نخبة" قصر المؤتمرات، ففي بداية السبعينات تم تداول هذا الموضوع، ورصدت جوائز لمن ينجح في إنشاء كلمات للنشيد الوطني من طرف الحكومة، وحين عرضت النماذج المتقدمة على كبير "النخية أحادية الثقافة والتوجه"، وهو حينها رئيس الجمهورية المرحوم المختار بن داداه، رفض هذه النماذج لأنها تمجده شخصيا، وتتغنى بالحزب الحاكم... "…فأنا والحزب ماضون والشعب الموريتاني باق.." ، حسب تعبير هذا الرئيس المؤسس الذي يسهل علينا اليوم التحامل عليه.
سأعود إلى عنوان هذه الدردشة أو المقاربة ، إلى مواقف أخرى ترددت داخل قصر المؤتمرات، وكتبت على مواقع التواصل الاجتماعي ونشر بعضها في مواقع الكرتونية تسخر من النشيد والعلم الوطني، وتُعيِّر الرموز ومن اقترحها فذكرتني بذلك الوصف البديع الذي راود غيلان ذا الرمة وهو ينظر بإشفاق إلى ناقته صيدحَ، التي انهكها الغدو والرواح سعيا إلى وصال مية.. فينشد في وصف حالها: " لَقَدْ هُزِلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِهَا كلَاهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِسِ "
الرباط يوم 13/10/2016