لقد تعددت الاراء واختلفت هذه الأيام حول رمزية النشيد والعلم ، والتي كان بعضها يهمني والبعض الآخر يحظى مني بتقدير لا يعكر صفو ودّه قضية الاختلاف ، حين كان مشغل الذي يشاطرني الرؤية هو من يسعى لاستبيان ضرورة التغيير بما يشحنه قوة ودلالة يكون لها صدى حماس
لجماهير الأمة وأجيالها التي تتوق لتخليد المجد وتضخيم الماضي ولكي تتذوق طعم الانتماء وتتوشح قوة البقاء والاستمرار... وقد نحت هذه الاراء منحى سجاليا أصبح من الملزم تسجيلي حضورا ما في سجال وطني كهذا وإن كان على مستوى وحي المشاعر والأحاسيس لوظيفة النشيد لما لها أصلا من معنى ومغزى في نفسية المواطن.
أتذكر أنني كنت سنة 2008 عندما سافرت لبلدان واختلطت بنخب واستمعت لأناشيد أمم أخرى ، طالبت بتغيير كلمات النشيد الوطني لكي يتسنى لنا أن نتمايل طربا وزهوا بعظمة ماضينا ، و يكون لصداه معنا في ذاتيتنا الحضارية وحتى نستطيع أدعاء ملكيته على الأقل ، فنشيدنا الحالي تستطيع كل دولة وحتى مجموعة إصلاحية وعظية دينية أن تتبناه ...!!
وهذه المطالبة السالفة الذكر تجعلني اليوم معنية بالحديث حول هذا الرمز وما يعنيه لي ، إن الحديث عن القيمة الرمزية والدلالية للنشيد الوطني والعلم تستدعي أولا توضيح الوظيفة الرسمية لهذين الرمزين لتتجلى صورة ما ينبغي عليه أن يكون النشيد والعلم بالنسبة لخصوصية الدولة والمجتمع الذي يجد ذاته في هذين الرمزين لكي يكونا ذا معنى ومغزى يحرك المشاعر ويخلد الأمجاد ويسطر عظمة الأمة ، هذه إذا هي وظيفة النشيد الوطني لسائر بلدان العالم، فهو بمثابة القصائد الحماسية لدى القبائل العربية ، فقبيلة تغلب مثلا لو قدر لها وكونت دولة بالمفهوم العصري سيكون نشيدها الوطني الذي يعزف كل صباح لدى أجيال الغد:
لنا الدنيا ومن أضحى عليها *** ونبطش حين نبطش قادرينا
أما في فترتنا المعاصرة فإننا بنظرة عادية نحو الأناشيد الوطنية للبلدان العربية الشقيقة المجاورة فإننا نجد بونا شاسعا بين نشيدنا وأناشيدهم تلك الأناشيد الملتهبة حماسا وحبا للوطن وتثمينا لبطولات الأجداد وتعلقا بهذه الأرض التي أنجبتهم، فهذا النشيد الوطني للمملكة المغربية تقول كلماته:
منبت الأحرار*** مشرق الأنوار
منتدى السؤدد وحماه
دمت منتداه
وحماه
عشت في الأوطان*** للعلى عنوان...
وهذه الجزائر تلتهب عظمة وزهوا بقوافل الشهداء مقسمة بالدماء الطاهرات وتلك الجبال الراسيات بالوفاء للوطن العظيم:
قسما بالنازلات الماحقات
و الدماء الزاكيات الطاهرات
*****
نحن ثرنا فحياة أو ممات
و عقدنا العزم أن تحيى الجزائر
****
صرخة الأوطان من ساح الفدا
فاسمعوها واستجيبوا للندا
و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...
أما تونس فقد اختارت كلمات الشابي لتجعلها معزوفة خالدة لكل الشعوب التي تريد الحياة وتكسر قيود الذل والخمول:
إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر
نموت نموت ويحيا الوطن
وانطلاقا من هذه النماذج يجب القيام بتحليل مقتضب لهذا النص الذي سيقدر له أن يصير نشيدا وطنيا لنا رغم أنف بطولات الأجداد وعظمة هذا الشعب...!!
وهنا قد نكون في غنى عن ذكر مناسبة هذه القطعة الدينية فقائلها أحد علمائنا ورموزنا الأجلاء الشيخ سيديا باب ولد الشيخ سيديا رحمة الله عليه ، بل نجزم القول بأن الشيخ لم يكن قد حضّر هذه الأبيات ذات الطابع الإرشادي لتكون نشيدا حماسيا يعزف من أجل بقاء الوطن وعظمة الأمة.
لقد كانت هذه المقطوعة تعبر خير تعبير عن انسيابية الإسلام السني الذي دخل البلاد عبر القوافل ، خاليا من ضجيج الطائفية ومشاكسة المذهبية ، فاحتضنته الصحراء في فضائها الشاسع وآفاقها المترامية الأطراف فجاءت موسيقى الكلمات ونغمة النشيد تشبه إيقاع سير القوافل حاملة الدعاة والمرشدين في هدوء وسكينة...
وعندما تأسس كيان الدولة الموريتانية وقع الاختيار على هذه القطعة دون أن يعي رواد التأسيس أهمية لاستحضار الوطن في هذا النشيد أو حتى ذكر أسم البلاد ، وليس هذا تشكيكا في وطنيتهم بقدر ما هو مجرد ابتعاد عن شخصنة رمزية النشيد ودلالاته، أو ربما كانت قضية النشيد قد اختيرت على عجل .
وانطلاقا من هذا تشكل وعي وطني ضعيف جدا حتى أن سواد الشعب كان لا يحفظ النشيد الوطني ولا يعني له شيء ، بل استبدلوه بكلمات تافهة لتسد الفراغ الحاصل...
وخلاصة لهذا فقد أصبح الوعي اليوم أكثر وصارت الأجيال تبحث عن ذاتيتها في الرموز وحصل الانفتاح على أمم وشعوب تطربها أناشيدها الوطنية بدلالاتها الخالدة وحماسها الملتهب حتى أصبح ما توحي به كلمات النشيد أمرا ضروريا ، ومع أن جيل التأسيس سيظل محل تقدير لكن ذلك لن يمنعنا من المطالبة بما يستجيب ومتطلبات تشكل الوعي وضرورة سد الفراغ الحاصل في المعنى الدلالي لنشيدنا الوطني الذي ينبغي له أن يلامس مشاعرنا وطنيا ويحترم ماضينا تاريخيا ...
ولنا موعد مع وحي العلم...
ذ. تربة بنت عمار