يعيش عالمنا الآن لحظة مراجعة للكثير من مسلماته، المراجعات الكبيرة والعميقة لا تبدأ عادة إلا إذا خرج العالم من محنة كبرى أو وجد نفسه يخطو نحو كارثة كبرى.
لقد طرحت الكثير من المسلمات للنقاش والنقد بعد كوارث الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبعد انتهاء فترة الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي. واليوم، على ضوء ما أفرزته العولمة غير المنضبطة من أزمات مالية واقتصادية وتطورات تكنولوجية، يعود ليناقش ما اعتبرها من قبل من المسلمات.
لا يوجد موضوع لا يخضع الآن لإعادة النظر بشكل واسع النطاق وبمحاولات جادة لتغيير مساره. في الاقتصاد تثار شكوك بشأن الانطباع السابق بأنه علم قائم بذاته ومشابه للعلوم الطبيعية، بعد أن أخفق في التنبؤ بمجيء الأزمات المالية التي اجتاحت العالم وفشل في تقديم حلول للخروج من تلك الأزمات.
في السياسة هناك مراجعة ونقد شديد للنظام الدولي برمته، بعد أن فشل، منذ قيام هيئة الأمم المتحدة إلى يومنا هذا، في بناء السلم الدولي ومنع الحروب المجنونة، وفي صون استقلاليته عن إملاءات مصالح الدول الكبرى الأنانية الاستعمارية الجائرة.
في الاجتماع البشري هناك مراجعة ونقد لاذع للمنطلقات الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة التي قامت على أسسها ظاهرة العولمة، والتي قادت في النهاية إلى إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء وأصبحت تعرف بظاهرة الواحد في المئة، إشارة إلى امتلاك واحد في المئة من البشر لأكثر من نصف ثروات العالم المادية والمعنوية.
في حقل التواصل الاجتماعي يخضع موضوع الإنترنت لمراجعات متعددة تتعلق بالمضار الصحية والنفسية والذهنية والثقافية على الفرد، وباستغلاله المبرمج لتكدس الثروات الهائلة في أيادي عدد قليل من الشركات، وبتهديده لمحو الكثير من المؤسسات الإعلامية والفنية والثقافية والصحية والتجارية، وبالتالي إدخال العالم في أزمات البطالة وزوال الكثير من المهن والحرف والنشاطات المعيشية. حتى الديمقراطية، التي ظن الكثيرون أن تجارب العالم عبر ثلاثة قرون قد حسمت موضوعها، هي الآن موضوع مساءلة ونقد شديدين، بعد الصعود المذهل لقوى اليمين الفاشستي عبر مجتمعات معاقل الديمقراطية والانفجار المجنون لظاهرة الجهاد التكفيري العنفي عبر كل بلاد العرب وكثير من بلاد العالم. إذا كان العالم كله يحاول الخروج من المآزق التي أدخل نفسه فيها، بدءا حتى بمراجعاته الشهيرة لموضوع الحداثة نفسها التي ظن أنها التاج الذي يجب أن يضعه العالم على رأسه، فكيف بالوطن العربي كله، من أقصى غربه إلى أقصى مشرقه، الذي يعيش محنة ومأساة وسقوط وجوده في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخه؟ أيريد هذا الوطن أن يبقى على عماه التاريخي بشأن الكثير من المسلمات التي ظن أنها من الثوابت التي يجب ألا تمس ولا تنتقد ولا تتجاوز؟ مثلا، هناك حاجة ملحة لمراجعة موضوعية شجاعة لنظامنا الإقليمي العربي الحالي، المتمثل أساسا في الجامعة العربية التي تقف اليوم عاجزة مشلولة مثيرة للشفقة أمام كل ملفات مشاكل الوطن العربي، التي أصبحت في يد أمريكا وروسيا ومسرحيات مجلس الأمن المضحكة، والانتقال إلى نظام إقليمي عربي جديد قادر على أن يكون نداَ للكيان الصهيوني الاستعماري وللتدخلات الإيرانية والتركية في كل صغيرة وكبيرة عربية. نظام يكون هو وحده المرجعية لحل مشاكل ليبيا وسوريا واليمن والسودان وغيرها ولمواجهة الإرهاب التكفيري والوقوف أمام عشرات الاستباحات الخارجية لهذا القطر العربي أو ذاك.
بدون ذلك الانتقال سنظل نسمع عن أشكال من الأحلاف المناطقية أو الأحلاف الدولية التي تزيد الأوضاع سوءا وتعقيدا، وسنظل نسمع عن اجتماع من مثل اجتماع دول مجلس التعاون مع تركيا للبحث في موضوع مأساة سوريا وشعبها بدلا من الاجتماع مع مصر، الدولة الأساسية في النظام الإقليمي القومي العربي. مثل آخر، هناك حاجة للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة لتكوين مجموعة من المؤرخين للعرب لمراجعة التاريخ العربي وتنقيحه من الأصنام التي أقيمت في كل ارجائه لتصبح معبودة الحاضر والمتحكمة فيه.
مثل آخر، هناك حاجة لقيام مؤسسة أهلية أو تجمع أهلي، بعيدا عن الجهات الرسمية، لإجراء مراجعة موضوعية شجاعة لكل الفقه الإسلامي بدون استثناء لأي مذهب أو مدرسة، لإخراجه من عوالم المقدس وإرجاعه إلى عالمه الذي بدأ منه، عالم الاجتهاد البشري القابل للمراجعة والتنقيح من الغثَ الكثير الذي أقحم فيه، والذي يستعمله البعض في تأجيج الصراعات الطائفية المريضة وفي تخلفهم الفكري والثقافي خارج العصر الذي نعيش.
نأتي على ذكر تلك الأمثلة لارتباطها المباشر وتأثيرها الكبير على ما يجري حاليا في أرض العرب المنكوبة، إذ هناك الكثير الذي يحتاج إلى نقد ومراجعة وتجاوز، نحن بحاجة إلى إجرائها أكثر من حاجة الآخرين الذين لا يعيشون الجحيم الذي تعيشه أمة العرب. وهي جميعها تتحدى إرادة وفاعلية مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام والسياسة والاقتصاد العربية، سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى المجتمعي المدني.
كاتب بحريني
د. علي محمد فخرو