في موريتانيا، لكي تكون سياسيا، لا توجد قائمة شروط طويلة أو قصيرة عليك تلبيتها ولا جذاذات كبيرة أو صغيرة عليك ملؤها ولا حتى تقاليد سياسية راسخة عليك احترامها، يكفي فقط أن تكون إنسانا بالغا وأن تتمتع بكامل قواك العقلية، لكي تشارك في هذا الجنون الوطني العارم!
مؤخرا كتب إياد أبو شقرا مقالا في (الشرق الأوسط) عن الانتخابات التشريعية المغربية قال فيه: "إن أسوأ الساسة هم أولئك الذين لا يقرؤون ولا تجتذبهم الثقافة وتنعدم عندهم الهوايات والذائقة الفنية"،
وخلص الرجل إلى أنه وجد في المغرب، ما يحسب أنه أعلى نسبة ثقافة وذوق فني بين الساسة في عالمنا العربي الكبير، الممتد من حظنا العاثر إلى جرحنا الغائر،
حمدت الله كثيرا، أن أبو شقرا لم تسول له نفسه التوغل أكثر في الجغرافيا، وإلا لكان هذا الكاتب اللبناني الثرثار، وقع في ما لا تحمد عقباه وجعلنا نقسم هذه المرة، بأن الأشقاء في لبنان يبيتون لنا مكيدة، بعد الذي حصل لنا مع أبو فاعور!
خلال الفترة الماضية تسنت لي فرصة متابعة عدد من النقاشات بين النخب السياسية المغربية على القناة الأولى للتلفزيون المغربي، بمناسبة الانتخابات النيابية في الجار الشقيق، كما حظيت في الوقت نفسه بنصيب وافر من تلك البرامج الحوارية، التي نبتت فجأة في قنواتنا التلفزيونية وأصبحت لها أغصان طويلة دخلت كل البيوت،
من الطبيعي جدا أن تتوقع أن تكون هناك مسافات ثقافية بين البلدين وأن يصنع التاريخ والجغرافيا فروقا بين النخب السياسية هنا ونظيراتها هناك، لكن الذي ليس طبيعيا ولا يمكن أن تتوقعه أو أن تتقبله، هو أن تصل الفروق والمسافات إلى هذا المستوى الصادم!
كل مساء، خلال أيام الحوار الطويلة، كان سياسيونا يأخذونا بعيدا إلى حدود السفسطة والعقم البشري، في برامج حوارية تحولت في غالب الأحيان إلى فرجة وطنية على السطحية والبؤس الفكري!
الديغولي الراحل فيليب سيغان، وصف السياسيين الفرنسيين في اليمين واليسار، ساخرا من تشابه خطاباتهم، بأنهم باعة صغار يشترون من عند نفس تاجر الجملة، لو أن الرجل زاد في كلامه قليلا وقال إن بضاعتهم مضروبة ومنتهية الصلاحية، لكان قدم صورة صادقة لحال الساسة عندنا،
هذا الوضع لا ينطبق فقط على السياسة، بل على الصحافة أيضا ومهن أخرى كثيرة، كان يفترض بنا أن نحافظ على حرفيتها ونقائها وجمالها، لكننا لم نحسن إحاطتها بما يكفي من أسوار، فتحولت إلى معارض مفتوحة للقبح، جعلتنا نقف اليوم على حافة الكارثة والانهيار العام،
في بداية مقاله يتحدث إياد أبو شقرا عن نصيحة قال إنه لن ينساها مدى الحياة، قدمها له ذات يوم من وصفه بصديق عزيز راحل، تقول تلك النصيحة : "حذار من سياسي لا يفهم إلا السياسة ولا يستهويه مجال غير السياسة"،
كان بودي أن أوشوش في أذن أستاذنا أبو شقرا بأني أعرف بلدا، السياسيون فيه لا يفهمون شيئا لا في السياسية ولا في غيرها، لولا أني كنت أدرك أن الصحافي اللبناني الذي يعيش في مدينة الضباب لندن، محاطا بالمكتبات ودور النشر والمسارح والمتاحف والمعارض الفنية ودور السينما والذي ينام ويصحو على كلام الساسة الإنجليز، لم يكن ليصدق هذا الخطب الجلل، بل كان سيسخر مني وهو يحتسي قهوته ويقول بلكنة لبنانية عذبة: (ناس فاضيين عام يحكو أي حكي!).