عاد الفتى من سفره الطويل ونبت في ربوع الوطن فرح يفوق الفرح وحذفنا رقما من قائمة أحزاننا المزمنة،
تعرفت على ولد الصلاحي في نهاية سبعينات القرن الماضي، عندما تقاطع طريقانا صدفة ذات زمن جميل، في ريف مدينة لقوارب عند الكيلومتر16، في قرية وادعة كان يدعوها أهلها (سيز)،
هناك، استودعنا تلك الأرض الطيبة حكاياتنا وأمنياتنا الصغيرة، لعبنا في وديانها وسهولها، سبحنا في بركها، شربنا ماء آبارها، احتسينا حليبها المعسول ونصبنا الفخاخ لطيورها وعصافيرها، حصل كل ذلك في صباحات خريفية رطبة، لم يكن فيها الوقت على عجلة من أمره،
ثم فجأة ودون وداع افترقنا، بذات البساطة التي التقينا بها افترقنا ومضى كل واحد منا في حال سبيله،
في بداية الثمانينات عادت الصدفة مرة أخرى وجمعتنا بلا ميعاد، فتقاسمت وولد الصلاحي مقاعد الصف الخامس الابتدائي في المدرسة رقم 2 في الحي العتيق من مقاطعة لكصر، كانت واحدة من تلك السنوات التي تحفر لنفسها مكانا قصيا في الذاكرة ثم ترفض أن تغادر،
سنتها، لبسنا سراويل سوداء من "محمد الحمدي" وقمصانا بيضاء قصيرة الأكمام وسرنا معا في صفوف منتظمة في وسط العاصمة نواكشوط، صبيحة ال28 من نوفمبر 1981 ونحن ننشد كلمات تكاد تطير من أفواهنا من شدة وطنيتها وحماستها، كتبها مدير مدرستنا آنذاك الأستاذ بارك الله ولد العتيق رحمه الله،
كانت المشاركة في الاحتفالات المخلدة لذكرى الاستقلال هي أكبر هدية يمكن أن تمنحها لتلميذ في الصف الخامس الابتدائي، حملونا في سيارة شحن كبيرة "رومورك" وكدنا نطير فرحا عندما أخبرنا المعلم بأننا سنمر أمام المنصة الرسمية ولقد حبسنا أنفاسنا في تلك اللحظة المهيبة حتى لا نتعثر في مشيتنا.
فرحتنا العارمة تلك لن تعادلها سوى فرحة أخرى، عندما أعلن المعلم في حصة الصباح في أحد الأيام الشتوية الباردة، أنني وولد الصلاحي سنترشح لمسابقة دخول السنة الأولى من التعليم الإعدادي ذلك العام،
تخطينا المسابقة بنجاح وسجلنا أنفسنا في "نادي طلبة الإعدادية"، الذي كان له في ذلك الزمن طعمه الخاص وقصصه وحكاياته التي لا تنتهي ووجدنا أنفسنا في إعدادية لكصر التي لم يكن لها سور وقتها وكأنها كانت نسخة طبق الأصل من أحلامنا.
هناك أمضينا السنتين (الأولى والثانية إعدادية)، كنا ضمن نفس المجموعة الطلابية التي تراجع دروسها معا وتمرح معا وتحلم معا وتلعب كرة القدم معا وينام أغلب أفرادها معا ويتقاسمون خبر الصباح الساخن المدهون بالزبدة الفرنسية مع شاي 8147 المنعنع،
ثم فجأة ودون وداع افترقنا، بذات البساطة التي التقينا بها مرة أخرى، افترقنا مرة أخرى ومضى كل واحد منا في حال سبيله،
ولد الصلاحي أو "حنكده" كما يلقبه المقربون، أخذ من أرض الجنوب طيبة أهلها وخصوبة فكرهم وطول باعهم وسعة بالهم وحس الدعابة الدافق لديهم، فكان واحدا من أولئك الفتيان القلائل الذين إن صادفتهم يوما، تحولوا إلى معالم محفورة على طريق الذاكرة، لا يمكن أن تمر بها دون أن تقف في حضرة تلك الأيام الخوالي،
عندما علمت أنه سيعود بعد خمسة عشر عاما قضاها في سجن سيئ الصيت قلت لنفسي: "ياه! لقد أطال فتى (سيز) الغيبة كثيرا" وتذكرت آخر لقاء بيننا، كان ذلك منذ ثمانية وعشرين عاما، في أيلول/سبتمبر 1988 وذات مساء مسكون بفرح طفولي يرفض أن يفحص عن نفسه، التقينا أمام إدارة الامتحانات التي كانت محشورة داخل مبنى صغير، محاذي لثانوية البنات من جهة الشرق،
كان هو قد حصل على باكلوريا الرياضيات ويستعد للسفر إلى ألمانيا الغربية وقتها لمتابعة دراساته الجامعية وكنت أنا قد حصلت على باكلوريا الآداب العصرية وحزمت أمتعتي ميمما دمشق وجامعتها للدراسة هناك وكان ذلك آخر لقاء بيننا، يبدو أن الصدفة نسيتنا ولم تعد تهتم لأمرنا،
بلغة بسيطة تنتمي إلى زمن جميل أفلت من بين أيدينا دون أن نشعر به، أقول لك: (أهلا بك في وطنك وبيتك وفي قلوب أهلك ومحبيك) وسيكون من المبهج جدا لو أن الصدفة ما زالت تتمتع بشيء لياقتها لتلعب معنا لعبتها القديمة.
البشير ولد عبد الرزاق