تتعاقب الليالي ولا تتشابه.. بين ليلة القدر وليلة سقوط غرناطة بعد مابين السماء والأرض؛ في الأولى تنزل الملائكة، وفي الثانية تسلل الأعداء خلف الخونة... وتضرب الخيام لغايات، وفي ظروف مختلفة.. فقد كان فسطاط عمرو بن العاص منطلق الفتوحات إلى إفريقية، بينما كانت خيمة الكيلومتر 101 بداية العقوق والتنازل عن الحقوق...
لكن التاريخ يحتفظ بهذه وتلك، وإن اختلفت عبره فيهما..
وهكذا، شهدت الخيمة التي ضربت فوق رمال نواكشوط ميلاد الجمهورية الأولى في تاريخ أرض المغافرة. ضمت الخيمة فرنسيين في الصدارة، وموريتانيين محتفى بهم، ووفودا إفريقية باركت كل الوليدات في تلك السنة. عربي واحد حضر الحفل نكاية في شقيق آلمته "الولادة".. من خاصرته. ترعرعت الوليدة في حضن أمها الرؤوم يرعاها رجال وطنيون حرصوا على بناء "دولة" بما أتيح لهم، وما سمحت به الظروف، فشغلتهم الجغرافيا عن التاريخ؛ فكانت الحدود هاجسهم، والجيران شاغلهم، لذلك تساءلوا أين نحن؟ بدل أن يحددوا "من نحن"! ولفرط التصاقهم بالجغرافيا اختزلوا هويتهم، هويتنا، في خط يجمع بين عالمين ظللنا مشتتين بينهما...
وينتقم التاريخ من الجمهورية الأولى التي بنت دولتها في غفلة منه، فيسقطها بالجغرافيا حين تجاوزت الحدود مهاجرة إلى الشمال في رحلة بحث عبثي عن المزيد من الرمال...
استنفدت الجمهورية الأولى أغراضها عام 1978 فانهارت مثل قصور الرمال اكتسحتها أمواج بحر الظلمات. خرت الجمهورية بعد أن أكلت الحرب منسأتها، وانفضت النخبة من حولها، وأصبح الرئيس المؤسس زاهدا فيها. فقد علم بما يدبر لجمهوريته فترك المقادير تجري في أعنتها، إذ لم يكن قادرا على إقالة قادة جيشه زمن الحرب – سيجربها غيره زمن السلم...- فتغافل عن ما يبيت له.
واستمر التيه إلى أن استرجعت الأم وليدتها، فكانت الجمهورية الثانية؛ جمهورية "لابول"، التي فرضت التعددية الحزبية، مثلما فرضت الجمهورية الأولى الحزب الواحد. لكن الظروف اختلفت؛ فلم تستطع "أمنا الغولة" فرض مرشحها، كما في الجمهورية الأولى، وإنما اكتفى الكولونيل بخلع الكاكي وملء الصندوق. واستمرت الجمهورية الثانية بلا طعم ولا رائحة حتى سقطت على سفر.
وكر الزمن دورته تحت خيمة بنيت في قصر، لوفود عربية جاءت تبايع بالرئاسة في نواكشوط من أغلقت الباب في وجهه من قبل في شتورا، ثم أدخلته من باب خلفي.. إن حضر لم يستشر، وإن غاب لم ينتظر. أرسلت إفريقيا هذه المرة رئيسها بدل مبعوثي الدرجة الثالثة. وبقيت خيمة القمة لم تنقض حتى شهدت ميلاد الجمهورية الثالثة...
لم تحضن الخيمة في تلكم الليلة البهيجة سوى الموريتانيين وقد أجمعوا على دستور لا يستلهم " دستور 1946م الفرنسي ودستور الجمهورية الفرنسية الخامسة 1958م."، وعلى علم يخلد تاريخ بطولات الأجداد ضد المحتلين والغزاة، ونشيد وطني ينتمي إليهم جميعا فيرسخ فيهم القيم النبيلة...
في ليلة الاستقلال هذه، لم يخطب الرئيس بالفرنسية، ولم يرقص أحد مع الذئاب... اختار الرئيس أن يخاطب شعبه بلغته الأم القادرة وحدها على نقل المشاعر مع العبارة، دون التباس التفكير ضمن أطر ثقافية معينة، والحديث بلغة غريبة تنتمي لثقافة مختلفة... تحدث بالحسانية ليفقه عنه أهل الفضاء الممتد "من أذراع إلى أزواد، ومن أزواد إلى شواطئ نهر السنغال" وبذلك صححت الجمهورية الثالثة خطأ الجمهورية الأولى، فجعلت الجغرافيا تبعا للتاريخ.. تاريخ اللغة والثقافة...
كان إعلان الجمهورية الأولى إيذانا باستلام رئيس للسلطة، والعمل بجد على بقائه فيها، في غياب تام للشعب الذي سيحكمه ثماني عشرة سنة. أما ميلاد الجمهورية الثالثة فقد توج بإعلان الرئيس عزوفه عن البقاء في السلطة واستفتاء الشعب حول خياراته السياسية والسيادية... وبذلك استرجع الشعب سيادته ليقرر مستقبل الجمهورية في حرية تامة، ويختار شعاراته ورموزه عن وعي...
كانت الجمهورية الأولى منحة مشروطة، والجمهورية الثانية ديمقراطية مفروضة، أما الجمهورية الثالثة فهي موريتانية الوجه واليد واللسان.. وبذلك لم تعد الجمهورية الإسلامية الموريتانية كما كانت من قبل بعد "ليلة الجمعة المباركة"، فعند الصباح يحمد القوم السرى...
د الكنتي