منذ البداية، أي منذ تسلمه رئاسة الحكومة العسكرية عام 1988، والجنرال ميشال عون لا يريد سوى أمر واحد: الوصول إلى قصر بعبدا بأي ثمن. هذا لا يعني بالضرورة أن الرجل لا مبادئ له، أو لا يتبنى رؤية سياسية، فالمبادئ والرؤية وغيرهما من الأدوات تخضع لشيء واحد، هو شعور الرجل باستثنائيته. المبادئ والمُثل وغيرها نابعة من هذا الشعور الذي لبسه، يوم تبنى من على شرفة قصر بعبدا صرخة سعيد عقل: «يا شعب لبنان العظيم»!
لم يرث ميشال عون الزعامة من أحد، صنعها بيديه، وانطلاقاً من اقتناعه بأنه «إنسان عظيم»، لأن القدر اختاره. فعون جاء وسط إحباط هائل في معسكر المارونية السياسية بعد مقتل بشير الجميل، والانقسامات الدموية الحادة التي ضربت ما كان يطلق عليه اسم «المجتمع المسيحي». أتى الجنرال ممتطياً صهوة شرعية قيادة الجيش، ليمسح الهزيمة بالعرس الشعبي الذي أقامه حول قصر بعبدا، بعد فشل حربيه: «حرب التحرير» من الهيمنة السورية التي اثبتت عدم جدواها، و»حرب الإلغاء» ضد القوات اللبنانية، التي فشلت على كل المستويات، لكنها نجحت في تدمير «المنطقة الشرقية»، كتوطئة لاجتياحها من قبل الجيش السوري.
بطل الهزائم المتتالية تحول إلى رمز لشرائح كبيرة من الناس، ونجح من منفاه الفرنسي، في قيادة شبكة من الناشطين، الذين قدموا نماذج للصمود في وجه الدولة الأمنية السورية – اللبنانية وقمعها.
في منفاه كان عون علمانياً واستقلالياً ورافضاً للميليشيات، ومصراً على تحرير لبنان من الهيمنة السورية. وعندما نجح اللبنانيون، في انتفاضتهم، بعد اغتيال الحريري، في إجبار الجيش السوري على الانسحاب، عاد عون إلى لبنان، ليكتشف أنه ليس زعيماً وطنياً بالمعنى الذي افترضه، بل أقسى ما يستطيع هو أن يكون زعيماً طائفياً. ولم يكن الرجل يملك خياراً آخر، فالوقت يدهمه، فهو في سبعيناته، ولا يمتلك الوقت الكافي لقيادة ثورة علمانية على البنى الطائفية المسيطرة. وبصرف النظر عن صدق علمانيته أو عدمه، فعون منذور لأمر واحد لا يستطيع التخلي عنه هو الوصول إلى سدة الرئاسة.
اكتشف الرجل أن طريق رئاسته مسدود بحلف طائفي هجين اسمه التحالف الرباعي (المستقبل وأمل وحزب الله والحزب الاشتراكي) ورغم اكتساح لوائحه لدوائر جبل لبنان المسيحية، فانه بقي معزولاً، ووجد أمامه خيارين وحيدين فتبناهما:
الأول هو تشكيل مظلة آمنة لبقايا النظام الأمني السوري- اللبناني المتهاوي، وهذا سيوصله إلى الارتماء في أحضان بشار الأسد.
والثاني هو فك عزلته عن طريق فك عزلة حزب الله، وتناسي حربه الشعواء ضد الميليشيات زمن رئاسته للحكومة العسكرية. حزب الله وجد في عون باباً لاختراق عزلته، وعون وجد في حزب الله حليفاً في مسعاه إلى هدفه.
ومن أجل إضفاء بريق آيديولوجي على المعادلة الجديدة، ارتفعت دعوات الخوف المسيحي من الأكثرية السنية، ثم مع اندلاع الثورة السورية وتحولها إلى حرب طاحنة، وصعود القوى السنية الأصولية، صار الشعار المضمر هو تحالف الأقليات في المشرق، وأصبح التحالف مع حزب الله ودولة ولاية الفقيه في إيران شعاراً استقلالياً لبنانياً!
الرجل لم يخن مبادئه الأصلية، المبادئ خانته وصارت عقبة في طريقه إلى تحقيق رسالته المنتظرة، لذا ضرب بالمبادئ عرض الحائط، وانصرف إلى تغذية الخوف، الذي وصل إلى ذروته مع تنامي الخطاب العوني العنصري ضد اللاجئين السوريين في لبنان.
غير أن هذه الاستدارة التاريخية لم تكن كافية، صحيح أن حزب الله هو القوة العسكرية المهيمنة على لبنان، وهو قادر على منع إجراء الانتخابات الرئاسية، لكن الصحيح أيضاً هو أن حزب الله لا يستطيع أن يحكم لبنان، ولا يستطيع فرض مرشحه للرئاسة. فالمعادلة اللبنانية رغم هشاشتها الظاهرة، قادرة على الدفاع عن نفسها، فالقيادات المتصارعة للطوائف اللبنانية تتقاسم النهب، وتراعي بعضها البعض، لأن انهيار احداها قد يعني انهيار الجميع.
الانسداد الرئاسي أوقع الجميع في المأزق. سعد الحريري المفلس مالياً لأسباب سعودية، حاول أن يتحايل على المأزق عبر ترشيح حليف آخر لحزب الله وسورية هو النائب سليمان فرنجية، لكن هذه الحيلة التي بدا لوهلة أنها ستمر، اصطدمت بعون الذي يرفض التراجع، ويشهر سيف إحراج حلفائه في حال التخلي عنه.
انتهت محاولة ترشيح فرنجية إلى الفشل، ويقال، والله أعلم، أن «الشيعية السياسية» لم تكن معنية أساساً بانتخاب الرئيس، فالفراغ يلائم مشروعها الخفي من أجل الوصول إلى مؤتمر وطني يلغي اتفاق الطائف، ويفرض «المثالثة».
الطرفان المتضرران من الفراغ والخائفان منه، وجدا نفسيهما أمام ضرورة شرب سم الالتقاء والتحالف. فاستدار سعد الحريري نحو عون ليجد الرجل في انتظاره، وبدا أن مشهد الميثاق الوطني، أي التسوية المارونية – السنية التي احتضنت مشروع استقلال لبنان عام 1943، يعود مجدداً. وهذا ما أثار غضب رئيس حركة أمل الشيعية والحليف المزمن لحزب الله، فبدا وكأن الطريق إلى بعبدا التي عبّدها الجنرال البرتقالي بالتنازلات على كل المستويات، وبوضع المبادئ على الرف، مهددة بالانهيار، وتتطلب مزيداً من التنازلات.
الحريري يرمي طوق النجاة الرئاسي لعون الغريق انتظاراً، وعون يرمي دولاب رئاسة الحكومة للحريري الذي يصارع أمواج الإفلاس الشامل، غريقان يبحثان عن النجاة، وسط تصاعد ريبة الحلفاء والأعداء من لقائهما.
واللافت أن تحولات الجنرال و»حربائية» مواقفه ترافقت مع إحداث تعديل جذري على تياره الذي صار حزباً، فتم إقصاء الناشطين القدماء وجرى استبدالهم برجال الأعمال واصحاب الملايين، الملتفين حول رئيس حزب التيار وصهر الجنرال جبران باسيل الذي انتُخب بالتعيين!
تجاوز الجنرال الثمانين، ولم يعد الانتظار ممكناً، فالبطل يعلم أنه لا يستطيع الدخول في صراع مع القدر والعمر والموت، لذا عليه أن يحث الخطى إلى القصر، ولا يسقط في أي فخ، ويتنازل أكثر، كي يستطيع أن يترجل في القصر ويرتاح.