قبل أيام نشرت الإندبندنت البريطانيّة نشرت موضوعا بعنوان “قارنوا تغطية المعارك في الموصل وحلب لتعرفوا الكثير عن الدعاية التي توجّه لنا” فقد قارن باتريك كوبيرن بين تغطية الإعلامية لأحداث كل من حلب والموصل وتوصل إلى أن هناك تحيزا في التغطية يصلح كمادة لتدريس طلبة الدراسات العليا لبيان تأثير وسائل الإعلام على الإحداث.
هذا الاعتراف يدحض النظرية التي تقول بأن الإعلام الغربي موضوعيّ أو ديمقراطيّ أو حرّ أو وغير موجه فالأحداث المتعاقبة على المنطقة تؤكد أن الإعلام والسياسة وجهان لعملة واحدة مع إن البعض قد يميل إلى التصديق بوجود إعلام ديمقراطيّ حرّ في العالم الغربي وينادي بطبيق النموذج الغربي في الدول العربية غير إن واقع الحال يثبت أن الحيادية والمهنية البحتة مسألة نسبية وهذا ظهر جليا في تغطية أحداث الربيع العربي وأحدث الحروب الإقليمية الدائرة بالمنطقة والتي أظهرت بعضا من التناقضات بين الواقع الفعليّ وما هو منقول إعلاميا والذي اتسمَ بالتهويل والمبالغة في نقل الأحداث تارة، وعدم دقة المعلومات وصحتها تارة أخرى وبدأ الانحياز واضحا لأجندة جهات التمويل فضاعت البوصلة الإعلامية وساد الكثير من التضليل في بث الاخبار عموما وانحسرت المصداقية للوسائل الإعلامية التقليدية الرسمية على وجه الخصوص والتي أضحت تعاني من تراجع؛ بل وغياب المعايير المهنية استنادًا إلى ضعف التمويل أو تدني التدريب أو هجرة الكفاءات إلى الإعلام الخاص كلُّ ذلك جاء مسبوقًا بغياب الاستراتجية الإعلامية الوطنية والعربية، فعلى سبيل المثال نرى اختلافا واضحا بين تغطية (فضائيتين عربيتين) للأحداث والحروب الإقليمية والقناتين تابعتين لدولتين متطابقتي وجهات النظر؛ بل حليفتين في الحرب إلا أنه هناك تناقضا في التعامل مع الحدث الواحد من حيث استخدام المصطلحات والمفردات ففي الوقت الذي تستخدم فيه الفضائية الأولى مصطلح (قتلى) نرى الفضائية الأخرى تستخدم مصطلح (شهداء) وهذا كان يمكن تجنبه لو كانت هناك استراتيجية إعلامية متفق عليها بين الدول العربية.
حتى صحافة المواطن التي لعبت دورا في أحداث الربيع العربي الآن يشوبها الكثير من الذاتية في الطرح وعدم الحرفية نظرا لأن روادها في غالب الأحوال هواة وليسوا محترفين. والأمر لا يتوقف فقط في تغطية الأحداث السياسية بل حتى في تناول الأحداث المحليّة ونشر الشائعات والتحريض على المؤسسات ونشر المعلومات الخاطئة في المجالات كافة وخاصةً في الجانبين: (الدينيّ والصحيّ) والتي تتعارض مع السياسات التوعوية أو تتقاطع معها.
هذا كله تسبب في زيادة نسبة التخبط والسياسات العشوائية في أوساط المجتمعات العربية التي وقعت ضحية إعلام مضلل وموظف لخدمة كل شيء إلا قضاياه الاجتماعية والاقتصادية، فالمتابع للخريطة الإعلامية العربية يجدها تغرد خارج السرب، وخارج خارطة الواقع ولا تعبر عن سياسات بلدانها أو شعوبها وى تهتم لمستقبل أجيالها وذلك في ظل غياب بروباجندا عربيّة، ومراكز دراسات متخصصة التي تخدم سياسات الدول الداخلية والخارجية، علما بأنها الأداة الرئيسة في أيدي الحكومات لتوظيفها في أغراض تساهم في تشكيل الرأي العام وتعبئته تجاه العديد من القضايا المختلفة وبلورة رأي عام للقررات السياسية.
ومنذ تحكم الولايات المتحدة على مجالات الحياة كافة بعد انتهاء الحرب الباردة في نهاية الثمانينيات والعالم يواجه الإعلام الأحادي والموظف لأجندات سياسية واقتصادية تخدم مصالح الغرب وتكمن خطورته في أنها سلاح مؤثر يصيب العقول والقلوب فيمكنه أن يرفع المعنويات أو يثبط الهمم.
فالحروب الإعلامية كفيلة أن تغير اتجاهات الرأي العام دون الحاجة إلى استخدام القوة والسلاح وفي هذا الشأن أستشهد بالنموذج الفيتنامي حيث استطاع أن يهزم المحاربين الأمريكيين معنويا ونفسيا من خلال الإعلام الذي ثبط من عزيمتهم وأثار الرعب في نفوسهم عام 1975 وفي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة خارجة منتصرة من الحرب العالمية الثانية.
وفي مقال لنيوريوك تايمز بعنوان “السلاح السيبيري الجديد لمحاربة داعش” ذيَّلَ الكاتب المقال بعبارة “إن أحد الجهود لمحاربة داعش تتضمن تضخيم شهادات المنتمين والهاربين الذين يكشفون وحشية ممارسات التنظيم” ولا يكتفى بتضخيم الشهادات؛ بل هناك بعض من المقالات التي تنشرها الصحافة الغربية في أوج أزماتها السياسية مع بعض الدول والتي تكون على شكل وثائق مسرّبة فنجد الأبواق الإعلامية تشتغل على هذه الرسائل وتعطيها صفة التكرار والملاحقة بهدف التأثير على الرأي العام العالمي. ويذكر إن الإعلامين الذين شاركوا في تغطية أحداث الحرب العراقية كانوا مقيمين بالفندق في العاصمة العراقية ومنعوا من الخروج فقد كانت المعلومات ترد إليهم من القيادة العسكرية الأمريكية لضبط وتوجيه المعلومات التي تنشر في وسائل الإعلام .
ومنذ عقود والمنطقة العربية واقعة تحت تأثير الإعلام الغربي الموجه و الذي يخدم أجندات مختلفة بين أهداف سياسية وأخرى تجارية وهو إعلام ناطق باللغة العربية وبأداوت عربية تمارس عملية تبرير السياسات الغربية في المنطقة وهذا يعد مغايرا تماما لما هو معلن ومن تلك الوسائل التي تؤكد أنها تهدف إلى محاربة الاستبداد ونشر الديمقراطية ومد جسور التعاون مع المجتمعات الأخرى فقد أوضحت الدراسات أن أموالا طائلة تنفق كقوة ناعمة لإنشاء وسائل اعلامية للسيطرة على الرأي العام حتى تكون إيجابية تجاه المشاريع والمصالح الغربية في الدول العربية والنامية.
ومن المؤسف حقا أن نعدم وسائل إعلامية تقليدية أو حديثة ذات منهجية منظمة تخاطب عقلية المواطن العربي في الزمن المعاصر وتحميه من تلك الحملات التي تستهدف حضارته وحاضره ومستقبله؛ فالإعلام العربي يتعامل مع قضية التوعية والأمن الفكري بسطحية وفي الكثير من الأحيان يقف صامتا أمام الحملات الموجهه ضده لافتقار العقليات والأدوات التي تستطيع إداره الأزمات الإعلامية بحرفية ومهنية مقابل إعلام عربي رسمي يتبع الأساليب التقليدية في التوعية والتوجية وتشكيل الرأي العام بعيدا عن الاستراتجيات المنظمة لهذا السلاح المهم والمؤثر .
إن الدول العربية تحتاج أمس قبل اليوم إلى توظيف الإعلام ليس فقط لبناء صورتها الذهنية محليا وعالميا بل إلى إعلام يستطيع التعامل مع الحملات الموجه لإضعافها سياسيا واقتصاديا من خلال مراكز للدراسات السياسية والإعلامية تعد استراتجيات لمواجهة خطر الانقراض أو الإزالة من خارطة العالم في الوقت الذي يعاد فيه توزيع موازين القوى العالمية .