بداية أرى من الضرورة الإضاءة على نقطة مهمة للغاية تتعلق بالمقال الأخير، وكذلكم بموضوع اليوم، وهي أن نقدي الشديد للسلطة والوضع العام في الجزائر، لا يعني أبدا أنها دولة ضعيفة يُقدّر انهيارها في وقت وجيز، واختصارا أسجل بأن روسيا مثلا قوة عظمى، وفيها كثير مما يؤخذ عليها وبقوة كذلك ، وقراءة نقده خارج سياق قوة الدولة ككل، على اعتبار موضوع النقد يشكل وحده قيمة الدولة ووزنها، ليٌّ لواقع الحال، والتفاف غير بريء. حين نسجل إضعاف جهاز المخابرات الجزائرية، فذلك نسبة لقدراته وإمكاناته والمساحة التي يجب أن يغطيها، وهذا لا يعني أبدا الاستهانة بقوته، بل لعله يعدّ من أقوى الأجهزة الاستخباراتية في العالم، وشريكا ومرجعية رئيسية لديها على الإطلاق، ومن واقع كونه يتمتع بالاستقلالية والخبرة الذاتية المتراكمة. وكذلك حين وجهت النقد لهرم السلطة، فعلى ضعف أدائها وضمور صورتها داخليا، فإنما يُحسب قياسا كذلك، والى غاية اليوم على الأقل، هي أكثر الأنظمة العربية فطنة وقدرة على إدارة مشاكلها، فضلا عن حضورها القوي والمؤثر، في المحافل الإقليمية والدولية.
وعلى ما تقدم، يكون قد أخطأ التقدير من يعتقد بأن الدولة الجزائرية في حالة ضعف، ويجانب الصواب من يستخف بوزنها ويستهين بخطرها.
الجزائر، وبكل موضوعية وتجرد، إذا ما قمت بعملية مسح لخارطة العالم العربي، ستجدها هي الدولة الأكبر والأقوى على الاطلاق، وأكثرها استقرارا وأمنا، ويعلم العاقل أن هذا الواقع لم ولن يأتي من فراغ.
لم يكن مفاجئا لنا تصريح وزير الدفاع التونسي أول أمس (27 من هذا الشهر)، حول وصول طائرات تجسس أمريكية الي تونس، تحت غطاء التعاون المشترك في محاربة الإرهاب ومراقبة الحدود التونسية؛ فقد سجلنا هذه الانعطافة الخطيرة للغاية أثناء زيارة الرئيس السبسي للولايات المتحدة، وما سرّبته دوائر معنية بالشأن الأمني والاستراتيجي، من معلومات بخصوص ملاحق الاتفاقية التي ابرمها مع باراك اوباما في: “مذكرة نحوعلاقات أمريكية-تونسية مستدامة 2015/05/20″، وكتبنا حينها هنا مرات عدة، ندعوفيها القيادة التونسية لإعادة النظر بوعي ومسؤولية، في نتائج المضي بهذا الخيار الذي يهدّد بشكل جدّي ومباشر الدولة الجزائرية.
يُفترض أن القيادة التونسية تعلم بأن الجزائر شكّلت برفضها القاطع، حجر عثرة لعمل قوات افريكوم في المنطقة، ووقفت سدا قويا ومنيعا يحول دون التدخل الامريكي في الشأن الإقليمي، هذا التدخل الذي ما عهدناه اخترق إقليما، إلا خرّبه وجلب له الدمار، سواء على مستوى العلاقات البينية لمكوناته، أوعلى مستوى الحروب العبثية التي يوقد نارها. ولا نعتقد أن القيادة التونسية بحاجة لأمثلة لتتأكد من ذلك.
ويُفترض كذلك أن القيادة التونسية تعلم فيما يتعلق بموضوع الطائرات من دون طيّار تحديدا، بأن الجزائر كانت سابقة عنها في تقديم طلب من الولايات المتحدة بسنتين على الأقل، وأن الولايات المتحدة اشترطت على الجزائر قاعدة لها على الأرض الجزائرية، كما اشترطت أن يكون التحكم بيد الولايات المتحدة فقط؛ الأمر الذي رفضته الجزائر شكلا وموضوعا، لما يشكله من خطر أمني عليها وعلى الأمن الإقليمي ككل. هذه الشروط التي قبلت بها القيادة التونسية، وسلّمت لها عنقها مع الأسف الشديد.
ويُفترض أن المندوب الأمني التونسي – وهنا أتجاوز مضطرا الخط الأحمر للمخابرات الجزائرية- كان أمينا في تقريره لقيادته، بخصوص اجتماع ضم الأطراف المعنية بمن فيها ممثل CIA، اللقاء الذي يعود لسنتين، والذي رفع فيه ممثل جهاز المخابرات الجزائرية، الصوت عاليا بوجه المندوب الأمريكي، وبلغة عسكرية حادة وصارمة، رفضا لأي شكل من أشكال التدخل الأمني الأمريكي في الإقليم. القواعد المعمول بها في دول العالم، أن الرئيس السبسي قد اطلع على تفاصيل هذا اللقاء، والذي نحسبه كان فاصلا في خيار الولايات المتحدة، للاستدارة نحوتونس لفرض حالة الاختراق كواقع لا مفر للجزائر منه.
بالنسبة للخبراء في تونس نقول: يفترض أنهم على اطلاع دقيق على الفارق بين ما قدمته الجزائر لتونس وما عرضته أمريكا، سواء على مستوى الدعم الأمني والاستخبارتي، أوعلى مستوى الدعم المالي؛ الذي تكفي عملية حسابية بسيطة لما ورد في مذكرة: نحوعلاقات أمريكية-تونسية مستدامة، تحت البند الأخير منها “تطوير القدرات الأمنية”، بأن الجزائر قدّمت خمسة أضعاف ما قدمته أمريكا في مذكرة (كامب ديفيد هذه لكن بالنسخة التونسية).
ويُفترض أنهم على اطلاع كذلك، بأن الجزائر قد نجحت في صناعة طائرات من دون طيّار، مزوّدة بالخصائص المتصلة بمهامها، سواء للمراقبة أوحتى ذات الطابع القتالي، وبلغت الاكتفاء وتغطية الحاجة منها، وانها قامت الى حد الساعة بتطوير الجيل الرابع منها، تنافس بجدارة الطائرات الأمريكية. وهنا لا أشير للإنتاج المشترك مع جنوب إفريقيا أوإيران، لما تفرضه الشراكة من قواعد في مثل هذا المُصنّع الأمني المتطور؛ وإنما أشير فقط للصناعة الجزائرية الصرفة، التي يحق للدولة الجزائرية التصرف بشأنها بكل حرية وسيادة مستقلة عن أي شريك.
كما يُفترض أنهم على اطلاع وبّينة، بأن الجزائر قد نجحت في بناء ثلاثة أقمار صناعية بعقول ومادة جزائرية خالصة، وقد تم إطلاقها بنجاح كذلك شهر سبتمبر الماضي، وهي تعمل بطاقات وبيانات عالية، ومن هذه الأقمار الصناعية ما يقوم بمراقبة دقيقة لكل الحدود، ولا نعتقد بأن القمر الأمريكي يزيد عنها، وإن ثبت ذلك، فاليقين أن أمريكا لن تزوّد تونس بكل ما تحتاج له. فسياسة فرض التبعية المعلوماتية اوالأمنية لا تقل أهمية وخطرا، عن التبعيّة الغذائية والصناعية وفق القواعد العامة لعلاقات القوى العظمى ببقية دول العالم، وعلى وجه أخص العربية منها.
ويُفترض أن النخب التونسية تعلم جيدا بأن الجزائر لا تتحرك، ما لم تستوثق من المعلومات، ليس من طبيعتها التهافت ولا التهريج العربي المعروف، ولعلها تذكر جيدا أن تصريحات خميس الجهيناوي بصفته مستشارا للرئيس السبسي عقب اتفاقية (كامب ديفيد بالنسخة التونسية) التي زعم فيها أنها ليست على حساب الجزائر، أوتصريحات راشد الغنوشي حين سارع لزيارة الجزائر على إثرها، و التي جاءت حرفيا:” “أكّدتُ أنها مجرد إعلان نوايا، ولا تتضمن التزامات متبادلة، لأنه حينها كان من المفروض الإمضاء عليها من قبل المؤسسات التشريعية في البلدين، وهوما لم يقع″؛ ولا ندري بما يصف الغنوشي اليوم موقف البارحة، وبماذا يفسر تصريحه السابق؟ هذه التصريحات وغيرها لم تثن القيادة العليا في الجزائر، عن إرسال وزير خارجيتها رمضان لعمامرة 2015/07/23 للقاء الرئيس التونسي، محملا برسالة عنوانها: “على تونس أن تختار بين أمريكا والجزائر”. ويُفترض أن القيادة التونسية هي الأكثر دراية بجدية الخطاب الجزائري، والأكثر علما وخبرة بصرامته وحزمه.
وبما أن القيادة التونسية قد حسمت خيارها، أختم المقال بالملاحظات السريعة التالية:
التاريخ والجغرافيا لن يتغيرا، وعلاقة الشعبين الشقيقين ستفرض حتما الخيار الأمثل.
السلطة التونسية لم تسجل أي طلب رسمي للجزائر بخصوص حاجتها لطائرات من دون طيّار.
السلطة التونسية لم تسجل أي طلب رسمي للجزائر بخصوص حاجتها لتدريب وتأهيل إطارات تونسية في المجال المعني.
الجزائر لها إمكانيات وقدرات تفوق بمراحل ما التقطته السلطة التونسية من فتات أمريكا.
من أنقذ المواسم السياحية المتعاقبة في تونس، قطعا ليس الشعب الأمريكي ولا خزانته، ولا أحد يجهل بأن السياحة هي العمود الفقري للاقتصاد التونسي.(راجع تصريحات المسؤولين التونسيين).
ما من خبير في الشؤون السياسية والإستراتيجية، أوله اطلاع على الملفات الأمنية، إلا ويعلم أن ما مضت فيه القيادة التونسية، يستهدف بشكل مباشر وحصري الجزائر.
ختاما يحضرني هنا قول النابغة محمود درويش رحمه الله: ” أمريكا هي الطاعون والطاعون أمريكا”؛ وما من عاقل يجلب إلى بيته الطاعون، وإن أصيب بلوثة عقلية وفعل ذلك، فليس من حقه أن يقول لجاره بأن أمر الطاعون شأن خاص لا دخل لك فيه، فلا تغلق بابك ولا تعلي أسوارك.
إن الجزائر لا تلعب ولا تقبل باللعب، ولكم تكون خسارة تونس فادحة، ما لم تتدارك النخب الواعية الأمر؛ ذلك أنه من المؤكد حد اليقين، بأن الجزائر قادرة على مواجهة هذا التحدي الأمني والاستراتيجي الخطير، وإنما السؤال: هل تملك فعلا السلطة التونسية القدرة على مواجهة تداعيات الطاعون الذي جلبته لتونس؟.
اسماعيل القاسمي الحسني
فلاح جزائري