حين تجف الحلوق، يجب أن يتطوع أحدهم ويجلب الماء والمواد المنعشة، "السقاية" هنا كانت دوما ماركة سياسية مسجلة باسم الإسلاميين، لن يخيبوا ظنوننا هذه المرة، هم من سيجر عربة المنتدى نحو الوفاق الوطني، الأصوات الخافتة التي سمعناها خلال الأيام الماضية ليست سوى تمارين إحماء والبقية تأتي،
القول بأن التحضير للاستفتاء الدستوري القادم، هو ما دفع الموالاة إلى إلغاء مسيرتها المرتقبة، هو أكثر من ضحك على الذقون، حقيقة الأمر هو أنها رسالة أخرى، أراد النظام أن يضعها في صندوق بريد المعارضة المقاطعة، بعد رسالة "وأد المأمورية الثالثة"، التي أصر الرئيس أن يتحول إلى ساعي بريد، حتى يوصلها بنفسه إلى وجهتها الأخيرة،
يبدو أن معركة الشوارع والساحات لن يكتب لها عمر هذا الموسم، لقد انتهت قبل أن تبدأ والتفسير الوحيد لما حدث للمسكينة، هو أن عليها أن تفسح الطريق لجولة جديدة من الاتصالات السرية داخل الغرف المغلقة، بعيدا عن أنظار الفضوليين،
من ضيق الأفق السياسي، أن نتصور أن النظام، بعد التنازلات التي قدمها، سيقبل بترحيل الأزمة الحالية إلى ما بعد 2019، ومن ضيق الأفق السياسي كذلك، أن نتصور أن أحزابا كالتكتل وتواصل وقوى التقدم، قد تتخلف عن الاستحقاقات المحلية والنيابية والرئاسية القادمة، هي التي لم تعد تمتلك النفس الكافي للاستمرار في لعبة المقعد الشاغر، بعدما أثقلت كاهلها وأنهكت قواعدها الشعبية،
هذا يعني طبقا لقواعد منطق أرسطو، أنه لابد من حل وسط لا غالب فيه ولا مغلوب، بهذه الطريقة أو تلك، سيهتدي النظام والمعارضة المقاطعة إلى وسيلة ما تعيد الدفء إلى الغرف الباردة وتجعلهما يستأنفان الحوار ويتوصلان إلى تفاهمات تفضي إلى وفاق وطني جامع وشامل،
وتلك ستكون آخر رحلة تقوم بها سفينة المنتدى، على أحدهم أن يتطوع بعدها ويخرقها ويجعلها تغرق بسلام بعدما أنهت مهمتها الأخيرة، التحالفات السياسية مثل رفقة السفر، مهما طال بنا الطريق، هناك محطة في نهايته يفترض أن يودع عندها بعضنا بعضا، آملين أن تتقاطع مساراتنا في هذه الحياة مرة أخرى،
نحن نغتال الأفق السياسي داخلنا وبطريقة باردة جدا، إن تصورنا ولو لوهلة، أننا سنذهب إلى 2019 بذات التحالفات السياسية الحالية (أغلبية ومعارضة)، علينا أن نمد بصرنا قليلا إلى ما وراء نهايات اللحظة الآنية ثم علينا أيضا أن نمد المشهد السياسي الوطني إلى أقصى حدوده الممكنة، لكي نقدم للناس أشياء تستحق القراءة والتفكير،
الأغلبية الحالية هي أغلبية الرئيس الحالي والمعارضة الحالية هي معارضة الرئيس الحالي، 2019 لا دخل لها في الأمر، هي موضوع آخر يختلف كليا عن ما سبقه، في الأنظمة الديمقراطية، لا يفترض أن تكون هناك أغلبية مزمنة أو معارضة مزمنة وإلا لكانت الصورة بائسة وباهتة للغاية، إخفاقاتنا السياسية المتتالية هي وحدها المسؤولة عن هذا الهبل الذي نحن فيه وهي التي تجعلنا اليوم نصدق مثل هذه الترهات و"الهراءات"،
في لبنان، طويت صفحة الأزمة السياسية، بعدما ظل البلد بدون رئيس على مدى أكثر من سنتين، اختار اللبنانيون ميشيل عون رئيسا لهم، كانت مواقف الجنرال السياسية دوما، تشبه عجينة لينة في يد فران ماهر وظل الرجل تلميذا مخلصا لونستون تشرشل ومقولته الشهيرة: "في السياسة لا يوجد عدو دائم أو صديق دائم، هناك فقط مصالح دائمة"،
على مدى سنوات الحرب الأهلية الطويلة، ظل الجنرال يمثل العدو الأول لسوريا، هي التي أرسلته إلى منفاه الفرنسي لمدة خمسة عشر عاما، لكنها عجزت أن ترسله خارج الذاكرة اللبنانية، ويوم خرج الجيش السوري من لبنان عام 2005، دخل عون بيروت منتصرا، لكنه ما لبث أن فجر مفاجأة فذهب إلى دمشق وتصالح معها وأصبح حليفا للأسد الابن ولحزب الله،
ثم عاد وفجر مفاجأة أخرى من العيار الثقيل، عندما ابرم اتفاقا مع الحريري الابن، مد الجنرال جسورا مع الجميع، أصبح يذهب إلى لبنان كله وأصبح لبنان كله يأتي إليه، فانفتحت أمامه كافة الطرق المؤدية إلى قصر بعبدا، مقر إقامة الرئيس اللبناني في بيروت،
يتفق اللبنانيون على أن سر صمود جنرالهم، الذي تجاوز الثمانين من عمره، داخل ساحة سياسية متقلبة المزاج والأهواء، هو قدراته الفائقة على إقامة التحالفات السياسية ثم إعادة تفكيكها وتركيبها كما يحلو له، حين يجد أنها لم تعد تناسب اللحظة، هذا الفكر السياسي المرن هو ما أنقذ لبنان من محنته وهو الذي يفترض أن يعبر بموريتانيا إلى الضفة الأخرى،
خلال انتخاب الرئيس ميشيل عون، وقعت حادثة لا تخلو من بعض الطرافة والغرابة، فالعملية التي كان يفترض أن تجري على شوطين، تطلبت شوطين إضافيين آخرين ووقتا أطول مما كان مقررا، كل ذلك بسبب الورقة رقم 128،
ففي كل مرة يتم فيها فرز أصوات النواب، كانت اللجنة التي شكلت لهذا الغرض، تحصي 128 ورقة تصويت، في حين أن عدد النواب هو 127 فقط، حيرت هذه الورقة الزائدة الجميع، لدرجة أن رئيس مجلس النواب نبيه بري، اقترح أن يتم إهمالها والشروع في فرز الأصوات من دونها،
رفض النواب مقترح رئيسهم وتطلب الأمر أن يأتي النواب إلى صندوق الاقتراع، بدل أن يدور هو عليهم وأن يتطوع اثنان منهم للوقوف إلى جانب الصندوق والتأكد من أن كل نائب سيدلي بمغلف واحد فقط، حلت المشكلة وحصل لبنان على العلامة كاملة 127/127 وأستعاد ملامح الدولة وأصبح لقصر بعبدا ساكن جديد،
قطعا، الأزمة السياسية عندهم في لبنان أكثر ضحالة و"مستنقعية" منها عندنا في موريتانيا، لوقت طويل كنا نقول إنه ليس أمام لبنان خيارات كثيرة، إما أن يرمي ساسته من النافذة وإما أن يلقي بنفسه في البحر وإلا سيحترق ويأخذ معه المنطقة كلها إلى حافة الكارثة، لكن لبنان فعل غير ذلك وحقق "المعجزة"،
الدرس اللبناني بسيط بساطة أغاني السيدة فيروز وصباحات ساحة البرج في وسط بيروت، بدل أن نفتش عن الذي دس "الورقة رقم 128" في صناديقنا وننزل شتما وذما وقدحا في بعضنا البعض ويخون بعضنا البعض الآخر ونضيع وقتنا في أشياء تافهة، علينا أن ندخل مباشرة في صلب الموضوع ونبحث عن حل للمشكلة وننجز العمل المطلوب،
الخط الهاتفي الساخن بين الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية ورئاسة المنتدى يجب أن تعود إليه الحرارة ويجب أن يشتغل ويرن مرة أخرى،
وتلك الغرف المغلقة والمظلمة، يجب أن يتطوع أحدهم فيفتحها ويشعل أضواءها، لكي يدب فيها الدفء من جديد،
إن نحن أردنا أن نسجل "معجزة" باسمنا؟!
البشير ولد عبد الرزاق