عودة "الرجل الأبيض" إلى البيت الأبيض | صحيفة السفير

عودة "الرجل الأبيض" إلى البيت الأبيض

خميس, 10/11/2016 - 12:15

في نقاش مع بعض الشخصيات السياسية في موريتانيا، منذ عدة أشهر، حول المجتمع والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال الحديث عن كون رئيس البرلمان الأمريكي السابق جان بينر وصل خلافه مع الرئيس أوباما حد رفضه الردّ على اتصال هاتفي منه ذات مرة، علّقت بالقول: إن الواقع يؤكد بأن الانتماء لعصبيّة قوية ليس شرطاً في حكم الدول التي سبقت القرن الثامن الهجري -كما لاحظ ابن خلدون- فحسب، وإنما لا يزال الأمر كذلك الآن، وإن اتخذ أشكال مؤسسات ومنظومات حديثة أحياناً. 
تزايدُ صعود اليمين والتيارات الشعبوية داخله في العقد الماضي، في أوربا وأخيراً في الولايات المتحدة، سيجعل النخب "العقلانية" الأخرى في هذه البلدان تراجع مواقفها من كثير من القضايا الداخلية والخارجية المتعلقة بشعارات (وهم) التعايش والمساواة وقيم الإنسانية.. وعلى الرغم من أن سياسات الرئيس الأمريكي الجديد لن تتغير بتلك الدرجة من الحدة التي طبعت خطابه الانتخابي، إلا أن العقد القادم سيسفر بشكل أوضح عن وجه "الرجل الأبيض" الذي تخفّى عن الكثير من نخبنا في مرحلة ما بعد الاستعمار. 
على مستوى الداخل الأمريكي سيحطم الملياردير، الذي بنى ثروته على أكتاف الفقراء وبالتحايل عليهم، تركة الرئيس الحالي براك أوباما بحنق شديد. بعد أكثر من عقد من الصراع مع الجمهوريين لم يسلم فيه هذا الأخير من إهانة السّاسة البيض له معنويا ولفظيا بشكل مباشر. وستتقوض في عهد اترامب -بمساعدة أغلبيته اليمينية- سياسات الدعم الاجتماعي، وتعميم الضمان الصحي، والتمييز الإيجابي... 
أما بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، فستكون قطعاً السنوات القادمة -حسب اعتقادي- لصالح أنظمة مثل نظام بشّار والسّيسي وبن زايد ونظام إيران ومن على شاكلتهم، وإن بصور مختلفة.. وستجف منابع الدعم الغربي لتيارات العالم الثالث، التي تراهن قيم الديموقراطية وعولمة حقوق الإنسان. كما سيتم تجاوز منطق الإيديولوجيا والمنافسة التاريخية بين الشرق والغرب ليلتقي النظامان الأمريكي والروسي على منطق واحد اسمه التحقيق الفج للمصالح، بدون أي وازع أخلاقي. 
المشكلة الآن تكمن في الإجابة على السؤال: هل ستتمكن النخب الحية في العالم "الآخر"، حاكمة ومحكومة، من إدراك ضرورة الانحياز إلى شعوبها، والتحالف من أجل بناء أنظمة تنبت من الأرض وتمكث فيها، هي الوحيدة القادرة على إجابة سؤال التنمية وتحقيق العدل والاستقرار. أم أننا سنظل نتعامل مع الغرب من مبدإ "معه أو ضده". في دوامة صراع معيق، بين "تنويري" يقتات على أفكار منظّرين قدِموا فجأة من دول الريف إلى الدول الصناعية فكان "تبشيرهم" مبنياً على ملاحظات سجّلوها من العيش في المقاهي أو من على هامش الحياة العامة، فغلب عليها الانبهار والاجتزاء. وبين "ظلامي أو رجعي" يسكن بين صفحات التاريخ؛ ينظر إلى السماء وينسى أنه واقف على الأرض، لا تقوم له مجموعة إلا لتنشقّ نصفين، يفشل في تدبير اختلافاته مع عشرة أشخاص حوله. طغى في خطابه الخوف على الأمل، والأماني على العمل والبناء، فنبذته المجتمعات حين أصبح جزءًا من المشكلة، ولَم تُعنه معرفة الباطل على إحقاق الحق؟!
الواقع الحالي للأمة الإسلامية -للأسف- لا يوحي إلا بمزيد من التشتت وتعدد بؤر الصراع، وخاصة في ظل نتائج انتخابات يوم أمس، مما يعني أن أحلام الحلف الأمريكي الروسي الجديد لن تتوقف إلا إذا أصبح الثمن الذي يدفعه "العالم الحر" مساندة للاستبداد أغلى من ثمن الحرية في هذه المنطقة، كما يقول الدكتور محمد المختار الشنقيطي. وقد لا يحدث ذلك إلا بعد أن تكتوي هذه البلدان بنار سياساتها، صراعاً داخلياً وانهياراً للتنمية والاستقرار. 
يبقي أن أشير إلى أن هناك عوائق مهمة أدّت وتؤدي الآن إلى تعثر اليمين المتطرف في بلدان أوروبية مماثلة لن تسلم مِنْهَا الطبعة الأمريكية الجديدة من الحكم الجمهوري. فلن يحكُم الفعلَ السياسي للإدارة القادمة منطقُ الخطاب الإنتخابي المتشدد، وإن كانت ملامسته قلوب غالبية الأمريكيين تستحق التوقف، فهناك مؤسسات دستورية قوية ولوبيات فساد متمكنة ليس من الواضح إمكانية إقناعها بسياسة الصِّدام والإقصاء. كما أن الواقع الشائك للملفات الخارجية، على مستوى الشرق الأوسط والعالم العربي بشكل خاص، وضعف أركان الاستبداد وفشل "عملاء الاستعمار الجدد" في تلبية الحاجات الضاغطة للمواطن داخياً قد يجعل الثمن باهظاً، ومراجعة تلك العلاقات حتمية. 
بالإضافة إلى ذلك -وربما هو الأهم- ستبقى داخل المجتمعات الغربية بشكل عام، والأمريكية بشكل خاص، قوى صادقة ومؤمنة بمستوى التعايش والمساواة -ومن عدم الإنصاف أو الجهل بالواقع نفي ذلك- قد يكون باستطاعتها تعديل الكفة بعد حين، والدفع باتجاه شيء من العقلانية يحافظ على كياناتها الداخلية ويستجيب لمتطلباتها، ويحفظ للعالم إمكانية شيء من التعايش. 

د. عبد الله بيّان