منذ فترة غير وجيزة ومع طفرة الفضائيات العربية المتلفزة وازدياد عدد وسائل الإعلام والصحف وولادة الصحافة الإلكترونية بدأت تتلاشى مفردات وعبارات لِتشيع عوضاً عنها مفردات وعبارات بديلة. ولئن كنّا نفهم أن لكل عصر قاموسه ومصطلحاته، فإننا في الوقت نفسه لا نرى الأمر مقتصراً على تقادم الأيام وتداولها بين الناس. فمن جهة ثمة ما هو نتاج منطقي لصيرورة الحياة وانتقالها من حقبة إلى أخرى. لكن، من جهة أخرى، ثمة ما هو مُدبَّر ومقصود، ولا يمكن وضعه بأي شكل من الأشكال في خانة التقدُّم والتطور، بل على النقيض تماماً، هو نكوص على الأعقاب وقلب للمفاهيم والمصطلحات رأساً على عقب.
مِن خُبث المؤامرة المزمنة التي تتعرض لها بلادنا، ومِن دهاء خطابها الإعلامي والثقافي جَعْلَها القولَ بها تهمةً و"لغةً خشبيةً" و"دَقَّةً قديمةً" بطلت موضتها. صار كثير من النخب الثقافية والإعلامية يتجنب الإشارة إليها ويرفض الاعتراف بها خشية الإتهام الجاهز ب"الرجعية" وبأننا نُعلِّق أزماتنا على مشجب غيرنا. علماً أن الصورة باتت أكثر وضوحاً من ذي قَبْل. فالقوى العظمى والدول الكبرى تجاهر بأهدافها ومشاريعها، وبما أعدّته وتُعدّه لبلادنا من مخططات ماكرة وخبيثة مِن دون أن تخشى لومة لائم.
لا ننكر أننا جميعاً نتحمّل وزراً كبيراً حيال ما أصاب أوطاننا ولا يزال، وأن السلطات المتعاقبة ومعارضاتها على أنواعها عجزت عن ابتكار حلول للأزمات الداخلية العميقة، وتلكأت عن بناء دول وطنية حديثة ومتقدمة، وساد فيها القمع والفساد والمحسوبيات. لكن الإقرار بهذه المسؤولية التي لا يختلف عليها إثنان، لا ينفي وجود مصالح ومطامع ومخططات ومشاريع دمرت بلادنا وفتتها ولا تزال منذ سايكس/بيكو إلى اليوم. فالاعتراف بوجود أخطاء ترقّى إلى مستوى الخطايا، لا يقود بالضرورة إلى نفي المؤامرة ونكران وجودها. براءة الذئب من دم يوسف لا تعني أن الذئب أليف ومسالم وساعٍ إلى السلام والوداعة، والبرهان هو ما فعله ويفعله ذئب الإستعمار ببلادنا التي لم ولن يرضى أبناؤها أن يكونوا حملاناً ساذجة في مسلخ العولمة المتوحشة.
طبعاً ثمة الكثير مما جنته براقش على نفسها، ومما صنعته أيدينا ولا يمكن تبريره أو تسويغه بذريعة المؤامرة. لكن الخطاب الإعلامي والثقافي المهيمن، (المتغافل في أحسن الحالات والمتواطئ في أسوأها) يسعى إلى توظيف تلك الأخطاء والخطايا في سبيل قلب الحقائق وتزييف الوعي عبر تسفيه فكرة المقاومة ورذلها وإدانتها من أصلها بوصفها فعلاً رجعياً وخشبياً وغير ذي جدوى، ليس فقط مقاومة المحتل الغاصب، بل كل شكل من أشكالها بما فيها مقاومة الهيمنة والتبعية والتخلف والتطرف، ومناهضة تفكيك المجتمعات وضرب نسيجها الوطني وإعادتها إلى مرحلة ما قبل الدولة. الدولة التي تظلّ في أسوأ تجلياتها أفضل مما تدعونا إليه "نظريات" برنار هنري ليفي ونظرائه من مفكِّرين عرب، وهي نظريات ظاهرها الحرية التي لا يمكن لمثقف أن يرفضها أو يعارضها، وباطنها ما نشهده من تدمير لأوطاننا وتفتيتها عرقياً ومذهبياً وجهوياً.
نظراً إلى ما تقدَّم يمكننا_مثلاً لا حصراً_فهم تخلي معظم وسائل الإعلام العربية للأسف عن صفة الشهيد للفلسطيني الذي ترديه قوات الإحتلال الإسرائيلي صريعاً، ولماذا لم يعد العدوان عدواناً بل صار في القاموس الإعلامي "الجديد" مجرد توغل أو عملية عسكرية في خلاء، حتى المواجهة بأبسط وسائلها المتاحة لدى الشباب الفلسطيني لم تعد مقاومة في المعجم الثقافي والإعلامي السائد والمهيمن بل غدت أعمال عنف وإرهاباً موصوفاً(!)، فيما المعجم نفسه يتجنب تسمية التيارات التكفيرية إرهاباً وتطرفاً ويطلق عليها مسميات تلطيفية. وهذا كله ليس مصادفةً أو جهلاً بطبيعة الصراع الضاري في الإقليم، بل هو ناجم عن إدراك القوى الإستعمارية وملحقاتها لأهمية المفاهيم والمصطلحات في تشكيل الوعي الجمعي للشعوب. جميعنا نعرف، مثلاً، الدور الذي لعبته السينما الهوليودية ولا تزال في تكريس صورة نمطية سلبية للإنسان العربي. والحال، أن "الثقافة الهوليودية" تشيع وتنتشر وتجد لها ممولين ومنتجين في لَبـُوسِ مفكرين ومثقفين تخلوا عن أدوارهم المفترَضة وباتوا يلعبون دوراً مضاداً لما كان مأمولاً منهم، فيما يغيب في المقابل المُنتِج المنتمي المتنور المهجوس بقضايا بلاده وشجونها وشؤونها بعيداً من حسابات الربح والخسارة، ولعبة المصالح الإقليمية والدولية.