الحَسَنة الوحيدة لهذا القرض هي المطالبة بالإفراج عن أكبر قدر من المظلومين المُقيمين في غيابات السجون المصرية بتهم هزلية، أو بسبب ممارسة حقّهم في التظاهر، أو بسبب التعبير عن أرائهم، أو عن مكنون إبداعاتهم الأدبية والفنية والفكرية.
وكانت مصر، عقب فضّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، قد شهدت اعتقالات تقدّر بأطنان المُعتقلين لا بأعدادهم. حيث عمدت السلطة إلى اللجوء إلى الحبس بقضايا واهية كحلٍ مبدئي للخلاف السياسي. “اكبش واحبس". وكان ذلك ليس في صالح الوطن ولا في سبيل تحقيق أمنه ولا هو وسيلة لاستقراره المنشود، كما أنه ليس الطريقة المُثلى للقضاء على عدو السلطة الأول – كما يبدو على الأقل – جماعة الأخوان المسلمين التي كانت تُطلق الزغاريد وتُقيم الأفراح والليالي المِلاح مع كل خبر لحبس ظالم: "أحسن.. عشان اتبطرتوا على مرسي... مش كان قاعد؟ ما كان قاعد... مشيّتوه ليه؟ أهو.. اتحبستوا أهو.. أهو.. أهو..”
قبيل دخول القرض في الحساب المصري تم تشكيل لجنة لدراسة حالات المساجين وإصدار قرارات بالعفو عمن لم يتورّط في جريمة وفقاً للقانون. وهو أمر فيه الكثير من التلاعُب بالقانون والألفاظ معاً. فقد تم تلفيق التّهم واستحضار شهود الزور في سبيل حبس جل المُتّهمين الذين يعلمون ونعلم ويعلم مَن حبسهم ويعلم الله فوقنا جميعاً أنهم أبرياء، كما تم استصدار قوانين جديدة تسمح بحبس أكبر عدد من الناس مثل قانون التظاهر، إلى جانب التّهم المطّاطة مثل: تهديد الأمن والسلم الاجتماعي ونشر أفكار تحضّ على "الحبظلم بظاظا"، والكتابة على الشبكة العنكبوتية بهدف إشاعة الفوضى... إلخ. الأمر الذي يجعل مهمة هذه اللجنة غاية في الصعوبة، فهي لن تجد مُتّهما محبوساً من دون تِهم وأدلّة وشهادات شهود وقوانين سُنّت خصيصاً لحبسهم، إذن، فليس هناك مَن هو محبوس خارج إطار القانون، اللّهم إلا أولئك الذين يقضون في الحبس الاحتياطي مُدداً طويلة تخطّت المدة التي نص عليها الدستور المصري. هييييييييييييييييييح.... الدستور المصري.. والله اشتقنالك.
المهم.. إن كنت من حيث المبدأ أعارِض فكرة "العفو" عن الأبرياء، فإنني من حيث التطبيق العملي، آمل، بل أرجو بل أتوسّل أن يتم إخراجهم من غيابات الجب بأي شكل كان، سواء كان عفواً أو هبة، أو منحة، اللّهم أخرجهم بأية طريقة، وأعدهم إلى أحضان أمّهاتهم وأبنائهم وزوجاتهم أو أزواجهم – إن لم تكن الفئة الأخيرة في السجن هي الأخرى – وليسبب الله أي سبب لتحقيق هذا الهدف.
ويمكن للجنة المُشكّلة بمعرفة الخلفيات والظروف التي تم فيها حبس هؤلاء المساكين أن تُخرِج أكبر قدر من المظلومين، فهناك تِهم جلية الزيف، مثل أن يُتّهم فرد بأنه ضرب ضابط أمن مركزي مع عساكره وزملائه الضبّاط، وسرق اللاسلكي الخاص به... يعني ده لو هيركليز مش حيعرف يعمل كده.
أو أن يُتّهم فرد أعزل بإنه قام بحرق المُجمّع العلمي وحده. أو أن يتم القبض على شخص كان ذاهباً لاستدعائه للتحقيق فقُبض عليه بتهمة التظاهر. أو أن يُتّهم شخص هو بتعريف الأمم المتحدة مازال في مرحلة الطفولة بأنه خطر على الأمن العام... يعني كما يقول المثل المصري: اللّي ما يشوفش من الغربال يبقى أعمى
وأزيد عليه: أو أنه يتعامى. من ثم، فإننا نرفع أكفّ الضراعة إلى الحكم العدل أن يُلهم تلك اللجنة الصواب، وأن يجعلها سبباً في برد قلوب الأمّهات.
كنت أظنّ أن عمل اللجنة هو دراسة القضايا وقراءتها ومعرفة ظروف الحالات المعروضة جميعاً، سواء كانت الحال صحية أو مادية أو اجتماعية إلى آخر هذه الافتراضات الساذجة من جانبي. كما كنت أظن أن عمل اللجنة يجب أن يتّسم بالسرّية، أو على الأقل، كنت أظن أن أعضاء اللجنة المُحترمين مشغولون بدراسة القضايا – وهو أمر ليس بالهيّن – والحالات، الأمر الذي سيأكل وقتهم جميعاً ولا يُتيح لهم المجال للحديث وإطلاق التصريحات، و"الرغي". كما أنه من المُفترض في أعضاء اللجنة أن يحملوا روح إسم اللجنة التي يشكّلونها "العفو". والعفو يكون عند المقدرة لا عفو مع العجز. والعفو هو مرتبة أعلى من التسامُح بل ومن الغُفران. هكذا تعلّمنا من اللغة العربية المحفوظة لقرون في كتاب المسلمين "القرآن". والعفو مصدره الرحمة لا العدل، فإن كان جلّ المحبوسين قد تم طردهم من باحة العدل، فإن في الرحمة من الرحابة ما يسعهم جميعاً.
هذه كانت ظنوني. ظنون بائسة مثلي، ومثل مَن يقبعون في زنازينهم مُتشبّثين بالأمل. ظنون سحقتها تصريحات على الشبكة العنكبوتية كتبتها إحدى أعضاء اللجنة لا داعي لذكر إسمها. منذ اليوم الأول الذي أطلقت يدها لتقرير مصائر وحياة آلاف الأسر، وهي تُردّد عبارات تسخر فيها من أهالي المُعتقلين، بل وتشرح لنا كيف أنها تحاول إقناع الأمّهات المساكين – الذين ينفطر قلبها لهنّ – بإن أبناءهن يستحقّون الحبس عن جدارة، وأنهنّ خُدعن في أبنائهن، وأنهنّ فشلن في تربيتهم، وأن الأمومة غالية لكن الوطن أغلى! متى كان كسر قلوب الأمُهات وحبس المظلومين وسيلة للدفاع عن الوطن؟
ثم أخيراً تلبّستها روح سليمان نجيب في فيلم غزل البنات حين وقف أمام نجيب الريحاني، بعد أن اتّهمه زوراً بسرقة إسوارة ابنته، يشير إليه: خلاص خلاص.. قلنا لك آسفين.. ثم يلتفت إلى خادمه: مرزوق أفندي... إديله حاجة...
فيجيبه نجيب الريحاني بمرارة مَن لحِق به ظُلم. فيستاء الباشا من شعور حمام أفندي بالظُلم وتعبيره عنه فيقول: الله.. أما إنك ظلنطحي صحيح.. ما قلنا لك آسفين... ثم يلتفت مرة أخرى إلى خادمه: مرزوق أفندي ما تديلوش حاجة.
فقد خرجت علينا تكتب على حسابها بنبرة حزم لا تخرج إلا من شخص لا يُصدّق نفسه أنه قد أتى اليوم أخيراً الذي سيتمكّن فيه من إذلال الناس بعد سنوات عِجاف من تحمّل المذلّة، وتُحذّرنا من أنه لن يتم الإفراج عن أسماء بعينها، وذكرت تلك الأسماء، وبالرغم من مكانة هذه الأسماء في قلبي ومعرفتي اليقينية ببرائتهم وحجم الظلم الذي وقع عليهم، فإنني لن أذكر تلك الأسماء لأن هذا المقال ليس هدفه الدفاع عن أشخاص بعينهم، وإنما أناقش المبدأ. كما أضافت بأنه لن يتم الإفراج عن أيّ شخص ينتمي إلى جماعة بعينها!
هكذا.. لن يتم الإفراج عن كل مَن هو ينتمي إلى هذه الجماعة بغضّ الطّرف عما إذا كان مذنباً أم بريئاً!
هذه الجماعة، التي لا أختلف معها فحسب، وإنما أمقت أفكارها ومنهجها وأسلوبها، بل وأظن فيمن يلتحق بها وهو بكامل إرادته – من دون أن تفرض عليه الأسرة ذلك – أنه شخص به خلل عقلي ما. لكن كل هذه الأفكار والمشاعر لا تعني أن يتم حبس أي عضو فيها حتى وإن لم يقترف أية جريمة سوى أنه قرّر الالتحاق بهذه الجماعة، لأيّ سبب: أسرته من هذه الجماعة، ينتمي إلى أسرة فقيرة وكانت هذه الجماعة تتولّى أمر تعليمه والقيام على احتياجاته، يريد أن يرضي الله وظنّ أن طريق هذه الجماعة هو الصواب، أو... مزاجه كده!
وإذا كان قد ثبت أن بعض أعضاء هذه الجماعة قد تورّط في جرائم بالفعل، فإن هناك العديد أيضاً ممَن لم يتورّطوا في أية جرائم، سوى أنهم كتبوا على حساباتهم الشخصية في شبكات التواصل الاجتماعي مع حلول كل مصيبة ببلاد: أحسن.. تستاهلوا!
طيّب ماشي.. قليلو الأدب.. لكن يتحبسوا؟
ثم ذكرت السيّدة المصونة بفخر شديد أن زملاءها من أعضاء اللجنة يرجونها أن توافق على العفو عن هذه الأسماء وعن بعض المحبوسين من المُنتمين إلى الجماعة، وأنها ترفض بعناد وتقف لهم كـ"اللقمة" في الحلق.
حسبنا الله ونِعم الوكيل.
لقد كنت أدرّب نفسي منذ فترة طويلة على التخلّص من عادة سيّئة جداً جداً جداً في شخصي الضعيف، وهي أنني كلما غضبت دعوت الله على الظالم. وقد كنت عزمت أمري بألا أدعو على أحد مهما رأيت منه فإما أن أتركه لله وهو يعلم باطنه وظاهره، وإما أن أدعو له بصلاح الحال والهِشداية.
وإنني أنقم على هذه السيّدة لأنها أفشلت كل جهودي على مدى أشهر طويلة، وأنطقتني من الدُعاء عليها بما كنت أكره أن أنطقه.
طيب بقى:
لا أنت مَن يُخرج الناس مَن سجونهم، ولا مَن أطلقك واستعملك وعيّنك في هذه اللجنة هو مَن حبسهم. تلك مقدرات لحكمة، وأنت ومَن يستخدمك مُجرّد أسباب. وقد تُتاح للإنسان فرصة أن يقدر على غيره فيُسارع إلى ما يضمن له عند الله أنه إذا قدر عليه يجد مَن يرحمه.
“وتلك الأيام نداولها بين الناس"
ومن هم في لجنة العفو اليوم لا يعلمون قد يأتي يوم ينتظرون فيه العفو والرحمة من غيرهم.
وليس كل سجن بلاء. وليس كل سلطة عافية.
وقد يكون من ذكرتيهم في ضيافة ربّهم ينزلون في محبسهم أهلاً من الرحمن ويحلّون سهلاً. وقد يكونوا في ظُلمات زنازينهم يسمعون إسمك فيتمتمون: الحمد لله الذي عافانا.
وقد تكون هذه السلطة الضيّقة الضعيفة المؤقّتة الممنوحة لك محنة كبيرة، وبلاء عظيماً، وقد تندمين على قبولك هذه المحنة بعد ذلك، خاصة أننا في مصر.
مصر وهي بلد: كله سَلَف ودين حتى المشي ع الرجلين.
ومَن لم يتّعظ من تقلّب الأحوال والقصاص الدائرة رُحاه على مدى خمس سنوات مضت في مصر، فلا واعظ له.
ربما أقدّر أن بعض الناس يتملّكهم الخوف من التنكيل أو الطمع في عرض الدنيا الزائل أو الإثنين معاً فيتحوّلون إلى: عبد المأمور. وربما أشفق عليهم، فنفس الإنسان أعقد من أن يحكم المرء عليها. لكن أن يتباهى الإنسان بانعدام الرحمة والقسوة ويتلذّذ بالظُلم والتنكيل، فهذا أمر وجب على كل مَن له عقل أن يحذّرك منه يا سيّدة، حرصاً عليك، لا على هؤلاء المظلومين الذين تتلمظين متشفية فيهم ومستمتعة بالتنكيل بهم، فهم في يد الله الأمينة.
“ويحذّركم الله نفسه"
ولولا رحمته بنا لما حذّرنا.
ولولا أناس مثلك لما زيّن للسلطان أن يسدر في غيه.
إحذري الله. إحذري الله. احذري الله.
أقولها لك قبل أن يأتي اليوم الذي تطلبين فيه الرحمة فلا تجدي مَن يُسخّره الله لك ليلبّي رجاءك.
وحسبنا الله ونِعم الوكيل كمان مرة.
نوارة نجم