لا تكاد تُفْرِغ وكالات الأنباء العالمية حمولاتها اليومية دون أن نعثر على أخبار وقصاصات معززة بصور عن "محمد بن سلمان"، ولي ولي عهد المملكة العربية السعودية، تقدمه كصاحب اختراقات عديدة، وكأمير شاب قادم من الصفوف الخلفية، يشق طريقه بثقة عالية في النفس نحو كرسي العرش، ويُنَصِّب نفسه من الآن وصاعدا المخاطب رقم واحد في المملكة مع الخارج، باعتباره بطلا للحرب أو السلم، يهندس مستقبل البلد الاقتصادي والاجتماعي، وبطبيعة الحال السياسي برؤيته الخاصة، ويعمل بإيقاع سريع على مختلف الواجهات؛ وهو الأمر الذي ضخ تدفقا عاليا للدم أكثر من المعتاد في شرايين المملكة المتعبة، التي كادت تصاب بالتصلب والانسداد لرهانها على عقيدة مراعاة التوازن المضبوط بـ"الستاتيكو" دون التورط المباشر، أو إحداث اهتزازات كبرى في الداخل كما الخارج، والعمل مُقَابِل ذلك على جبر الخواطر ومحاولة إرضاء الجميع، ما يجعل طريق هذا القادم ليست سالكة كما يبدو أو خالية من المنعرجات.
بالنظر إلى أجندة ولي ولي العهد محمد بن سلمان، التي توصف بـ"الثورية "، سيدخل، من دون شك، هذا الأمير المثير للجدل ومشروعه، إن كان جديا، في مواجهة قوية مع مجلس الإدارة العائلي المغلق، المتمثل في الأمراء النافذين، وأطراف أخرى تولت القيام بجملة من المهام عن طريق المناولة.. هذه المواجهة ستكون محتدة للغاية من خلال موازنة امتدادهما، لأن لكلاهما مصالح قوية في شركة الأسرة الخاصة والمحدودة.
لأول مرة تجد المملكة العربية السعودية نفسها أمام وضع أقرب إلى حملة انتخابية رئاسية سابقة لأوانها، وليس أمام انتقال محسوم ومضبوط للمُلك لا علاقة له لا ببرامج ولا بإنجازات، لاسيما عندما نقف عند الطريقة التي يُسوِّق ولي ولي العهد نفسه بها، يسابق فيها الزمن، ويتجاوز الحواجز بطريقة غير عادية، والده الملك "سلمان بن عبد العزيز" خير سند ودعم له في كل ما يقوم به، يوافقه وفي الوقت نفسه يستمد منه قوة الشباب وفورته، ويعوض غيابه. غير أن امتياز الفتوة ليس دائما نقطة قوة في محيط تَعَوَّد على الشيخوخة وحتى على الكهولة المثخنة بالأمراض، إذ إن رفع الإيقاع يُقْرَن بالتهور وضد التعقل والحكمة.
مواجهة الإشكالات المستقبلية لم تعد اختيارا، بالنظر إلى الأمر الواقع، إذ إن صيغة "الدولة" كما هي قائمة تظل غير قادرة على المواكبة، متذرعة بالدين والعرف و"طبيعة" الشعب السعودي...كما أن الحساسية الزائدة تجاه الحداثة السياسية والفكرية لم تعد تطاق، لذلك أضحى الأمر تَحَديا جديا مفروضا على آل سعود كأسرة حاكمة، يتعدى التوزيع الكلاسيكي لموازين القوى داخل العائلة المتمثل في ما يمكن تسميته مثلا سيناريو "عودة الأبناء الكبار"؛ بل إن الأمر يتطلب انقلابا في السياسات العمومية، لأنه تم إثبات أن امتلاك النفط ليس أمانا من الفقر ولا ضمانة للإفلات منه.
استعجالية القطع حتما مع دولة الرفاه التي أصبحت تتعرض للتآكل، والمتجلية على سبيل المثال في أعباء توزيع معاشات شهرية لأكثر من سبعة آلاف أمير، حسب بعض المصادر، لاسيما أنه ليس سرا الثراء الذي يتمتع به أفراد الأسرة الحاكمة، إذ يصنف بعضهم من بين الأكثر ثراء في العالم. كما تسري الاستعجالية نفسها على إعادة النظر في الدولة الغنيمة المقدسة التي توزع الامتيازات والعطايا مع كل عهد جديد على حساب رجالات العهد البائد، الذين يسارعون إلى مراكمة كل ما أمكنهم قبل المغادرة لترك المكان لمن يخلفونهم.
إن القطع مع دولة الرفاه لم يعد مجرد اختيار، لاسيما وأن تحرير فعالية المجتمع الاقتصادية والثقافية والشبابية تفرض نفسها، بالإضافة إلى ضرورة الاستعاضة عن معادلة النفط والخدمات مقابل الولاء، أي أن يكون الولاء مفترضا للوطن بدون مُقَابِل، بدون ريع.
إن الأمر يتطلب تمثيلية شعبية مجسدة في مؤسسات، ومجتمع مدني مستقل، وغير مبني على غلبة أو نفي للآخر، وفصلا بين السلطة والثروة الذي أَخَّر القطاع الخاص، مخافة تمكين طبقة تجارية مستقلة تنافسها ليس في الاقتصاد فقط بل في السياسة. وقطعا لا بد من الفصل مع ثقافة الاستهلاك والرفاهية المبالغ فيها إلى درجة البذخ، واعتبار كل شيء قابل للشراء، وتأسيس بنية صناعية أو اقتصادية متكاملة آتية من عائدات النفط المنعزلة عضويا.. هذه المادة المحايدة في الطبيعة التي من المفترض أن تتحول إلى مادة للتقدم والرخاء للجميع، وليست مادة سلبية معوقة، أو أداة للاضطهاد والقمع، مع ما يستتبع ذلك من تغير النظرة إلى المال باعتباره قيمة أساسية ومستقلة، والعمل والمراتب الاجتماعية، وتغيير النظر إلى المال بخفة ودون مسؤولية، من خلال الربط بين الثراء والعمل والثقافة...
مخاوف عديدة لها مشروعيتها تعبر عن خشية أن يكون الأمر أقرب إلى حملة انتخابية سابقة لأوانها لـ"ولي ولي عهد"، يعمل لكي يصبح "وليا للعهد".. هناك خوف معبر عنه أن يكون مجرد مسحة ترقيعية سياسية فوقية، لاسيّما أن هذه النزعة الإصلاحية لم تأت بضغط شعبي أو حراك. ثم إن أي تغيير مثل هذا لن يكون بديهيا، خاصة أن الأمر يتعلق بقيم المجتمع السعودي التي تكلست على مدى عقود، وطبَّعت فيها مع الجمود والتفرج. كما أن انزعاج مراكز المصالح أكيدة، والأمر نفسه بالنسبة إلى "حراس الدين" المحافظين الذين لهم ارتباط بعالم المال والسلطة، وتبادل الخدمات. فكيف سَيُدَبر موقف هؤلاء في منح المرأة فرصا للعمل؟ كيف سيكون موقف المواطن السعودي عندما سيجد نفسه مطوقا بضرائب لأول مرة، وأداء رسوم على خدمات...؟.
لذلك لا يلعب الوقت لصالح هذا الوافد الجديد، في وقت لا يخفي المناوئون تذمرهم، وربما إعدادهم لسيناريوهات بديلة، خصوصا أن كل الأوراش والواجهات المفتوحة في وقت واحد لا تتقدم كما يُرتجى (حرب اليمن، سوريا، إيران...). ثم إن الظرفية الاقتصادية في أسوأ أحوالها، بالإضافة إلى سياق إقليمي صعب ومعاد...كل ذلك يُعقد من وضعية الشخصية الثالثة في المملكة، إذ إنه مطالب بإحراز نتائج مُرضية لإفحام أنداده، والاستفادة من حياة أبيه الملك لكي يحَسِّن من وضعيته، لاسيما عندما يتم استحضار شخصية ولي العهد "محمد بن نايف" التي تحظى باحترام وتعاطف من لدن الأمراء والعامة لنهج سيرته الطويل في تقلد المناصب والمهام التي قام بها، فهو الذي أفلت من الموت أكثر من مرة، ولازال يعاني، حسب بعض المصادر، من تبعات آخر محاولة اغتيال.
لا يَملأ أمير في المملكة مربعا في السلطة دون أن يكون على حساب آخر؛ بل على حساب آخرين، ضمنهم أمراء ومساعدون نافذون، مرتبطون بالماسك بالسلطة. وينسحب الوضع أكثر على تغير الجالس على العرش، الذي يتغير معه الطاقم بشكل تلقائي ويغادر بشكل نهائي.. انطبق الأمر بشكل جزئي على اعتلاء "محمد بن سلمان" من خلال تعيينه وليا لولي العهد، وسيصبح التغيير مطلقا في حالة ترقية هذا الأخير وليا للعهد، وهذا هو الأمر الذي يتحسسه الكثيرون بين مرحب مستفيد، ورافض مرفوض.
إن المعلن من تغييرات لا يمكن أن يتم دون توافق كل مراكز القوى، كما لا يفترض تغييب مختلف الفعاليات السعودية ومكوناتها. فالمرأة، على سبيل المثال، في السعودية، هي عنوان التحرر، والرهان على موضوعها لا يجب أن يكون استجداء للشرعية الدولية، ولا مغازلة لبعض فئات المجتمع، ولكن لكونه حجر زاوية المشروع المبشر به. كما أن أي توظيف للموضوع لخلق تقاطب حاد ومفتعل سيكون تفويتا لفرص على وشك الانتهاء والضياع، وهدرا لزمن لم يعد يحتمل تهاونا آخر...
إن النفط مهما طالت مدة إنتاجه مادة ناضبة، ولا بد أن ينتهي في وقت ما. وإن المبالغة في تقدير كميات الاحتياطي لتبرير زيادة الإنتاج لَنْ تنفع في أن يظل الوضع على ما هو عليه.. لا بد أن أي تغيير في هذا المجال لن يكون فجًّا، بل سيُمَهَّد له، أو سيكون مصحوبا بإجراءات من شأنها تخفيف الضغط، واستيعاب تبعات التغيير.
لكن هل ستقبل النواة الصلبة للنظام بهذا التغيير هذه المرة، ونخص بالذكر أمراء بعينهم؟ هل ستحافظ الأسرة المالكة على وحدتها كما عودت الجميع على ذلك؟ هل سيكون انتقال المُلك للجيل الثالث بديهيا؟ وماذا عن هيئتي البيعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...؟.
محمد مونشيح
أستاذ بكلية الحقوق بطنجة
هسبريس