ملف خاص: موريتانيا من ولد داداه.. إلى ولد الشيخ عبد الله | صحيفة السفير

ملف خاص: موريتانيا من ولد داداه.. إلى ولد الشيخ عبد الله

اثنين, 28/11/2016 - 13:32

بعد ما يناهز ستة عقود من الاستعمار الفرنسي، حصلت موريتانيا على استقلالها رسميا يوم 28 نوفمبر1960 بعد سنتين من الاستقلال الداخلي ضمن ما عرف بمجموعة إفريقيا الغربية.. وقد واجه الاحتلال الفرنسي عمليات مقاومة عسكرية في مختلف مناطق البلاد خلال أكثر من ثلاثة عقود، وكانت بعض المعارك التي خاضها الموريتانيون ضد المستعمر مطبوعة بطابع التنظيم.

ومن أبرز أبطال المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي في موريتانيا الشيخ ماء العينين، وبكار ولد اسويد أحمد، وسيد أحمد ولد أحمد عيده، وسيدي ولد مولاي الزين، وأحمد ولد الديد، وفودي جاگيلي، والشيخ ولد عبدوك، ومامادو الأمين، واعلي ولد ميارة.. وغيرهم كثير.

ومن أشهر معارك المقاومة ضد المستعمر: أم التونسي، وانييملان، ورأس الفيل، ووديان الخروب، وبوگادوم، ولگويشيشي، وميجك، وسيلبابي، والنعمة، وتجكجه..

ولم تكن المقاومة الثقافية أقل نجاعة من العمليات المسلحة ضد الغزو الاستعماري، حيث أدت الفتاوى الشرعية التي تحرم التعامل مع النصارى -بوصفهم كفارا- إلى انكماش الموريتانيين وعزوفهم عن التعامل وربط العلاقات الاجتماعية مع الفرنسيين؛ كما تجسدت تلك القطيعة في امتناع الأسر من إرسال أبنائها إلى المدارس النظامية، ولعل هذا ما يفسر الافتقار الحاد في الأطر عند رحيل المستعمر؛ الأمر الذي عاق -إلى حد كبير- عملية بناء الدولة الناشئة، سواء من حيث البنى التحتية أم المؤسسات..

ومع ذلك فإن نجاح المقاومة الثقافية عاق تغلغل الفرنسيين في المجتمع الموريتاني، عكسا لما وقع في بعض المستعمرات الأخرى؛ الأمر الذي أدى إلى شعور الفرنسيين بأن لا أحد يرغب في بقائهم على الأراضي الموريتانية، وليس أمامهم سوى الرحيل.

28 نوفمبر1960:المختار ولد داداه والاستقلال

يرتبط استقلال موريتانيا في الذاكرة الجمعية للموريتانيين باسم الرئيس الراحل الأستاذ المختار ولد داداه.. ويعود ذلك -بشكل كبير- إلى الدور الذي لعبه الرجل خلال فترة التحضير لمرحلة قيام موريتانيا مستقلة.. كما يرجعه بعض المحللين السياسيين إلى كونه أول رئيس للبلاد وهو من أعلن استقلالها، وبرز خلال الحملة المحضرة للاستفتاء الذي نظمته القوة الاستعمارية يوم 28 سبتمبر 1958 للاختيار بين الاستقلال التام والبقاء ضمن ما عرف بإفريقيا الغربية الفرنسية.. وهو الاستفتاء الذي نص عليه القانون - الإطار المصادق عليه سنة 1957.

وقد أسفرت نتيجة هذا الاستفتاء عن بقاء موريتانيا داخل مجموعة إفريقيا الغربية الفرنسية؛ وهو ما حدث في بقية بلدان المنطقة باستثناء غينيا كوناكري التي صوتت أغلبية ناخبيها بـ"لا".

وقد برز المختار ولد داداه الذي كان أهم قادة التيار المناوئ للاستقلال التام، وبرر هذا الخيار بكون موريتانيا ما تزال ضعيفة جدا في وقت تواجه فيه ادعاءات مغربية تعتبرها جزءا من أرض المملكة، ومحاولات فيدرالية مالي (التي تضم السنغال وبلاد السودان أو مالي حاليا) ضم بعض المناطق الجنوبية الشرقية من موريتانيا إليها.

وفور الإعلان عن نتائج الاستفتاء علق المختار ولد داداه على فوز تياره قائلا: "إن الأمة الموريتانية بتصويتها المكثف، أظهرت يوم 28 من هذا الشهر رغبتها في بناء مستقبلها بمساعدة فرنسا (...) إن بإمكان موريتانيا أن تعد للحصول على استقلالها في أفضل الظروف، وذلك بفضل هذا الدستور الذي صادق عليه الموريتانيون بأغلبية كبيرة، وسنخرج في الوقت المناسب من مجموعة الشعوب الحرة الواردة في الفصل السابع، لنقيم معها اتفاقيات شراكة طبقا لما نصت عليه الفصول الموالية"

وقد كانت نتيجة التصويت 94% لصالح "نعم"..

تعليق الرئيس المختار ولد داداه جاء من موقعه نائبا لرئيس مجلس وزراء الحكم الذاتي بفعل دستور القانون- الإطار بتاريخ 20 مايو 1957. وكانت أول حكومة شكلها ولد داداه آنذاك على النحو التالي:

-  وزير الأشغال العامة والنقل: أمادو جاجيه صنبه جوم

-  وزير التجارة والصناعة والمعادن: أحمد سالم ولد هيبه

-  وزير المالية: موريس كومبانبيه

-  وزير الوظيفة العمومية والعمل والشؤون الاجتماعية: سيد أحمد لحبيب ولد الحسن.

وزير العقارات والعمران والسكن والسياحة: الدي ولد سيدي بابه

واحتفظ المختار ولد داداه بحقيبة التعليم والشؤون الثقافية والشباب, فيما احتفظ الحاكم الفرنسي لموريتانيا موراغ بحقيبة الداخلية..

بعد عامين على استفتاء 1958 تم إعلان استقلال الجمهورية الإسلامية الموريتانية في منتصف ليل الثامن والعشرين من نوفمبر1960 من طرف المختار ولد داداه الذي تولى منصب رئيس مجلس الوزراء منذ فوز "نعم" في الاستفتاء المذكور، وإعلان قيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية..

وقد تشكلت حكومته الأولى على النحو التالي:

-  رئيس مجلس الوزراء والشؤون الداخلية: المختار ولد داداه

-  وزير المالية: موريس كومبانييه

-  وزير الاقتصاد الريفي: أحمد سالم ولد هيبه

-  وزير التخطيط والعقارات والعمران والإسكان والسياحة: ممادو صانبولي

- وزير الأشغال العامة والنقل والبريد والمواصلات: أمادو جاجيه

-  وزير التجارة والصناعة والمعادن: محمد المختار الملقب معروف

-  وزير العدل والتشريع: شيخنا ولد محمد لغظف

-  وزير التربية والشباب والإعلام: سيدي محمد الديين

-  وزير الوظيفة العمومية والعمل: سيد أحمد لحبيب ولد الحسن

-  وزير الصحة والشؤون الاجتماعية: حمود ولد أحمدو

حفل إعلان استقلال الجمهورية الإسلامية الموريتانية تم بحضور عدد من قادة دول مجموعة إفريقيا الغربية الفرنسية التي حصلت كلها على الاستقلال نفس السنة، حيث حضر كل:

- من فيلكس هوفوات بوانييه رئيس ساحل العاج.

- ليوبولد سيدار سينغور رئيس السنغال.

- فيلبرت اتسيرانانا رئيس مدغشقر.

- يوني ليومبا رئيس الغابون (الحاج عمر بونغو فيما بعد).

- جورى حماني رئيس النيجر.

- هوبير ماغا رئيس داهومى (بنين حاليا).

- أبي فولبير رئيس الكونغو.

- موريس ياماييوغو رئيس فولتا العليا (بوركينا فاسو حاليا).

- افرانسوا تومبالباي رئيس اتشاد.

- دافيد داكو رئيس وسط إفريقيا..

كما حضر الحفل الوزير الأول الفرنسي ميشيل دوبريه ممثلا للجنرال ديغول.. إضافة إلى عبد الله فرحات مدير ديوان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة..

نص خطاب إعلان الاستقلال:

أعلن المختار ولد داداه عن قيام الجمهورية الإسلامية الموريتانية في خطاب له في حفل إعلان الاستقلال حيث قال:

"السادة الرؤساء وقادة الدول

أصحاب السعادة

السيد رئيس الجمعية الوطنية

السادة النواب

سيداتي وسادتي..

لن أحاول إخفاء الشعور الذي يغمرني في هذه اللحظة؛ لقد أصبح حلم كل رجل -وكل امرأة- في هذا البلد حقيقة؛ فمن الآن أصبحت بلادنا تملك مصيرها بيدها وتواجه مستقبلها.

بعد سبات طويل تدخل الأمة الموريتانية -الفخورة بثراء ماضيها- مصافّ الشعوب المستقلة.

كيف لا نشيد -هنا- بالعمل الشخصي للرجل الذي استوعب -برؤية ثاقبة وغزارة فكر- تطلعات شعوب ما وراء البحار.

لقد استطاع الجنرال ديغول مطور سياسة ابرازافيل؛ حيث وجدت بذرة مجموعة الشعوب الحرة والمتساوية -استطاع- أن يفهم طابع التحرر -الذي لا رجعة فيه- من الاستعمار، وضرورة هذا التطور الذي وصل اليوم إلى غايته.

لقد مكن بذلك هذه الشعوب من الحصول على استقلالها في إطار الصداقة مع فرنسا.

موريتانيا لن تنسى ذلك أبدا.

ولن تنسى -كذلك- جميل الشعب الفرنسي؛ وبمساعدتها في تحرير الأرض الإفريقية تكون فرنسا وفية لروحها ولتاريخها.

إن حصيلة نصف قرن من الوجود الفرنسي في موريتانيا هي -أولا- وحدة الوطن، وكذلك مجموعة من الإنجازات مكنت في جميع المجالات من القيام بالكثير من التقدم لا يمكن تجاهله بفضل الجهود المشتركة للفرنسيين والموريتانيين.

إني متأكد أن هذا التعاون سيتواصل على أسس جديدة لمصلحة شعبينا.

إن حضوركم هنا -سيادة الوزير الأول- لهو الضمان الأكيد لذلك.. ونحن نثمن هذا التقدير، وقد تأثرنا خصوصا بالعبارات التي وردت في خطابكم قبل قليل.

في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخها، وفي الوقت الذي تلتحق فيه موريتانيا بشقائقها في الأمم الإفريقية التي سبقتها على طريق الاستقلال.. يسعدني أن أحيي رؤساء الدول الإفريقية -أو وفودها- الذين أبوا إلا أن يؤكدوا مجددا تضامنهم الذي لا يتزعزع معنا.

إن بلدنا فخور -كذلك- بأن يحاط بحب الكثير من الأمم التي يزيد وجود ممثليها معنا هذه الاحتفالات ألقا.

صحيح أن بعض الأماكن بقيت شاغرة -ونتمنى أن يتم شغلها- إلا أنني مقتنع بأن سوء الفهم المؤقت الذي يتولد عن ذلك سوف ينجلي قريبا.

إن موريتانيا ترغب في إقامة علاقات تعاون وثيقة مع جميع الشعوب..

وكأمة إفريقية فإنها تريد توطيد علاقاتها مع الأمم الإفريقية الأخرى التي تتضامن معها في نبذ أي لجوء للعنف، وكذا في البحث المشترك عن حلول لجميع المشكلات الإفريقية.

إن موريتانيا ترغب في أخذ موقعها في منظمة الأمم المتحدة التي سبقتها إليها دول إفريقية هذه السنة (1960) التي تشكل مرحلة حاسمة في تاريخ إفريقيا.

إن موريتانيا -بطبيعتها الجغرافية وتنوع سكانها- تريد أن تلعب دور همزة الوصل بين إفريقيا الشمالية وإفريقيا السوداء.. وتبرهن أعراقها المتحدة أخويا على إمكانية ارتباط عالمين مختلفين حول مبدإ ومصالح مشتركة.

إن موريتانيا الواعية للدور المنوط بها لن تدخر أي جهد للحفاظ على مناخ الوئام والتعاون الوثيق الذي سيمكنها من القيام بالمهمة التي أخذتها على عاتقها.

كما تتمنى موريتانيا انتهاء الصراعات الدامية التي يعيشها الإخوة الأفارقة في أي مكان توجد فيه بؤرة للتوتر.. وخاصة في الجزائر التي يجب أن يمارس شعبها حقه في تقرير المصير وإنهاء ست سنوات من المعاناة.

أما فيما يخصنا -مواطني الأعزاء- ففي الوقت الذي بدأنا فيه تحمل مسؤولياتنا الخاصة علينا أن نتمعن في الواجبات التي يمليها علينا ذلك.

مما لا شك فيه أن من حقكم أن تشعروا هذه الأيام بالنشوة؛ فمؤسساتنا المستوحاة من المثل الديمقراطية تزاول عملها، ويتم تنظيم الدولة من القاعدة إلى القمة.. علينا أن نعي جسامة العمل الذي ما يزال علينا إنجازه.

في المجال السياسي -ومن أجل تهذيب الجماهير وخلق وعي وطني- تجب علينا تنمية روح التضامن، ومفهوم الخدمة العمومية، لتجاوز المجموعات القبلية والعرقية؛ وبذلك -وحده- سنحقق التطور من القبيلة إلى الأمة.

وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.. ولضمان حياة أفضل، وتحرير الإنسان من قبضة الظروف الطبيعية الصعبة في بلادنا.. علينا أن نعطي دفعا جديدا لاستغلال ثرواتنا.

إنني متأكد أننا لن نخوض هذه الحرب وحدنا، وبأننا سنحصل على المعونات الضرورية.

مثل موروثها التاريخي.. فإن الموروث الروحي الموريتاني ستتم المحافظة عليه بجهودنا وتضحياتنا.

إن بلدنا الذي قدم الكثير في الماضي من أجل إشعاع الإسلام يظل فياضا بالدين وبالحضارة الإسلامية؛ ووفاء لتقاليدنا الإنسانية فإننا نرفض أي تقوقع.. ونؤكد روح التسامح التي استوحينا منها دستورنا.

هذه -أيها السادة- هي همومنا..

في هذه اللحظة يحتفل الموريتانيون في كل مكان باستقلال الوطن.. الفلاح، وحضري النهر، والمنمي في خيمته، والعمال في المناجم وفي الورشات، وسكان القرى والمدن.. بنفس الفرصة؛ مع جميع الموريتانيين في الخارج، الذين يحيون بداية عهد جديد في هذه العاصمة الوليدة.. أدعوكم إلى الاعتراف برمز إرادة شعب آمن بمستقبله.

عاشت موريتانيا حرة ومتآخية."

 

بدأت موريتانيا مسيرتها كدولة في ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها بالغة الصعوبة.. دولة على رمال الصحراء دون أية بنى تحتية، دون أطر متخصصين.. تواجه أطماع دول مجاورة تدعي أنها جزء من أرضها وترفض استقلالها.. معركة غير متكافئة بكل المقاييس؛ ومع ذلك ينتصر الحق الموريتاني وتعترف معظم دول إفريقيا بالدولة الجديدة.. وتعترف بها دول عظمى وتقبل عضويتها في الأمم المتحدة وتشارك في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية.

وأخيرا، يضطر العرب للاعتراف بهويتها، وتدخل الجامعة العربية..

في العام الموالي لاستقلال البلاد تمكن المختار ولد داداه -الذي انتخب نفس السنة أول رئيس للجمهورية- من دمج كل الأحزاب السياسية ضمن تشكيلة واحدة أطلق عليها اسم "حزب الشعب الموريتاني" ليتولى قيادته بنفسه إثر المؤتمر التأسيسي المنعقد ما بين 25 و30 دجمبر 1961.. وبدأت مرحلة نظام الحزب الواحد بعد صياغة الدستور الذي يكرس هذه الأحادية..

في عام 1969 تعرضت موريتانيا لجفاف لم يسبق له مثيل استمر عدة سنوات متتالية.. مما أنهك اقتصادها الهش أصلا؛ وأمام الضغط الداخلي من مختلف التيارات المحلية المدعومة شعبيا وجماهيريا, أقدم المختار ولد داداه على مراجعة الاتفاقيات التي تربط البلاد بفرنسا؛ حيث تم تأميم شركة "ميفرما" التي كانت تستغل معادن الحديد, وأنشئت عملة وطنية خاصة خرجت بموجبها موريتانيا من منطقة الفرنك غرب الإفريقي.

وبفعل هذه القرارات التاريخية استقطب حزب الشعب العديد من الشباب والتيارات المعارضة.. وبدأت مرحلة بناء اقتصاد وطني ونهضة إعمار حقيقية، كان شعارها "لنبن جميعا الوطن موريتانيا"...

نجح المختار ولد داداه على الصعيد الدبلوماسي؛ حيث تمكن من إقناع العالم بعدالة قضية موريتانيا أمام ادعاءات المغرب التوسعية المطالبة بضمها إلى أراضيه.. كما استطاعت دبلوماسية الرئيس ولد داداه إيقاف التوغل الإسرائيلي في القارة الإفريقية وإقناع قادة دولها -فيما بعد- بقطع علاقاتها مع هذا الكيان الغاصب لأراضي الشعب الفلسطيني والمعتدي على دولة إفريقية احتل جزءا من أراضيها سنة 1967 وهي جمهورية مصر العربية..

وكان المختار ولد داداه واحدا من أبرز مؤسسي منظمة الوحدة الإفريقية حيث انتهز فرصة وجود عدد من نظرائه الأفارقة في انواكشوط لحضور حفل إعلان الاستقلال سنة 1960 ليبحث معهم مسألة إنشاء منظمة قارية, وهو ما تم بالفعل سنة 1963 بأديس أبابا.

وربط المختار ولد داداه علاقات جيدة بأبرز قادة العالم في عهده مثل الزعيم جمال عبد الناصر، والملك فيصل بن عبد العزيز، والزعيم الصيني ماواتسيتونغ، والرئيس الفرنسي الجنرال ديغول وخلفائه، والزعيم الغاني أكوامى انكروما، ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان..

ومن إنجازات ولد داداه بناء العاصمة انواكشوط وإنجاز ميناء انواكشوط المستقل؛ أول ميناء على المياه العميقة في إفريقيا.. وإنجاز أهم مراحل طريق الأمل، وبناء وتوسيع مطار انواكشوط, ومطار النعمة.. هذا إضافة إلى قرارات تاريخية تمثلت في إدخال اللغة العربية إلى النظام التعليمي, وتأميم استغلال مناجم الحديد في الشمال وإنشاء عملة وطنية.

بيد أن مسيرة النهوض والبناء اصطدمت بدخول موريتانيا -التي تقاسمت مع المملكة المغربية إقليم الصحراء الغربية بعد انسحاب إسبانيا منه- في صراع مسلح مع مقاتلي جبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء وقيام جمهورية صحراوية، وتحظى بدعم عسكري وسياسي ودبلوماسي من الجزائر..

استطاعت البوليساريو شل الاقتصاد الموريتاني من خلال التركيز في هجمات متكررة على قطار نقل خامات الحديد بين ازويرات وميناء انواذيب الذي يتم منه تصديرها.. وخلال هذه الحرب التي واجهت معارضة واسعة في العديد من الأوساط السياسية والشعبية في موريتانيا, واجهت الدبلوماسية الموريتانية معركة جديدة أمام الدبلوماسية الجزائرية القوية بقيادة الرئيس الراحل هواري بو مدين الذي يحظى بدعم المعسكر الشرقي في أوروبا وآسيا وإفريقيا والعالم العربي.. وفيما أثرت الحرب سلبا على موريتانيا من الناحية العسكرية -حيث لجأت إلى طلب تدخل عسكري مباشر من القوات الملكية المغربية ومن سلاح الجو الفرنسي- تمكنت جبهة البوليساريو من بناء جيش تحرير مدرب ومسلح بشكل جيد.. واتسعت دائرة التأييد والتعاطف الدولي مع الصحراويين, في الوقت الذي لم يستوعب معظم الموريتانيين الجدوى من دخول بلدهم في هذه الحرب الطاحنة ضد أشقاء يرفعون شعار الاستقلال والتحرير.. وأدت هذه الوضعية التي يطبعها تدهور اقتصادي شديد وحالة من انعدام الأمن وتنامي الشعور المناهض للحرب، تركت القيادة العسكرية جبهة الحرب واتجهت صوب القصر الرئاسي لتضع نهاية لنظام الرئيس المختار ولد داداه وتستولي على السلطة..

 10 يوليو 1978 ومسلسل الانقلابات

في صبيحة يوم الاثنين العاشر من شهر يوليو 1978 فوجئ سكان مدينة انواكشوط بوحدات من القوات المسلحة تنتشر في الشوارع وأخرى تتخذ من الملتقيات الرئيسية مواقع لها.. وكانت هذه الوحدات توقف كل سيارة تصادفها وتأمر من على متنها بتركها حيث هي.. ساد اعتقاد في الأوساط الشعبية بأن الأمر يتعلق بهجوم جديد لعناصر جبهة البوليساريو على العاصمة، في ظل تأخر بث الإذاعة الوطنية.. ولم يدم الأمر طويلا حيث تسربت أنباء عن وقوع انقلاب ضد الرئيس المختار ولد داداه؛ وهو ما أكده بيان عسكري أذيع على أمواج الإذاعة الموريتانية بعد أن بدأ البث على أنغام الموسيقى العسكرية.. البيان الذي أطلق عليه اسم "البيان رقم 1" وتلاه الملازم المرحوم جدو ولد حكي بدأ بالآية القرآنية {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} وجاء فيه أن "القوات المسلحة الوطنية – وهي في الأخير صاحبة المشروعية الوطنية- قد استولت على السلطة –بل استرجعتها- من أولئك الذين انتزعوها من الشعب بالغش والخيانة".. وأضاف البيان رقم 1: "لقد انتهى عهد نظام الرشوة والخيانة المعادي للمصلحة الوطنية" وأنه تم حل "الحكومة والبرلمان والحزب وكافة الهيئات المنبثقة عن هذا الأخير".. ووعد البيان بتشكيل حكومة جديدة في وقت لاحق؛ موضحا أن أهداف اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني التي تولت السلطة في البلاد، تتلخص في ثلاث نقاط:

- تحقيق السلام.

- تقويم الاقتصاد الوطني.

- إقامة مؤسسات ديمقراطية.

في مساء اليوم نفسه أعلنت تشكيلة اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني برئاسة المقدم المصطفى ولد محمد السالك..

وقد أعلنت حالة حظر التجول على امتداد التراب الوطني من الغسق إلى الفجر..

في اليوم الموالي للانقلاب أعلنت اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني عن تشكيل حكومة جديدة يرأسها ولد محمد السالك، تميزت بكونها خليطا من العسكريين والمدنيين..

التزم الرأي العام والشارع الموريتاني الحيطة والحذر وساد جو من الترقب في اليومين الأولين على الانقلاب وجاءت أول ردة فعل خارجية من جبهة البوليساريو التي بادرت إلى الإعلان عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد "تعبيرا عن حسن النية" حسبما جاء في بيان الجبهة.. بعد ذلك انطلقت مسيرات التأييد والمساندة للنظام الجديد في أهم مدن البلاد, كما تهاطلت برقيات التأييد والمساندة على سادة القصر الجدد. وكان إسماعيل ولد أعمر, وهو حينها مدير عام للشركة الوطنية للصناعة والمناجم التي حلت محل شركة "ميفرما" بعد تأميمها سنة 1974 أول من أعلن تأييده للقيادة العسكرية, وذلك في تصريح لإذاعة المملكة المغربية حيث كان موجودا يوم الانقلاب..

خطاب الزعيم الجديد

خاطب المقدم المصطفى ولد محمد السالك الشعب الموريتاني، في أول خطاب له غداة تحرك قادة القوات المسلحة، فقال:

"أيها الموريتانيون, أيتها الموريتانيات،

أتوجه إليكم جميعا, سكان المدن والقرى والبوادي حيثما كنتم, وأيا كانت مهنكم؛ الموظفين منكم وعمال جميع قطاعات الحياة الاقتصادية, الصناعيين والتجار والفلاحين والمنمين, وأيا كانت أعماركم.. أتوجه إليكم لأخبركم, فلكم كامل الحق في ذلك وعلي الجواب..

لقد عانينا جميعا من ويلات السلطة الشخصية التي قلصت إلى العدم المؤسسات التي بنيتموها سنة 1960.. إن تكريس السلطة الشخصية قد قاد وطننا إلى حافة الخراب .(...) "

وحول مبررات الاستيلاء على السلطة بالقوة, قال رئيس اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني: "مثلكم جميعا فإن الضباط وضباط الصف وجنود جيشكم غير ملزمين باحترام المؤسسات الديمقراطية إلا إذا كانت تعمل بشكل طبيعي.. مثلكم جميعا يتطلعون إلى الحرية والكرامة وإلى احترام القيم الإنسانية.. إن الجيش لفخور بأنه يحارب مع الشعب وبأنه نظم معكم عملية تقويض أركان السلطة الشخصية.. وهو لا يسترجع السلطة التي اغتصبت منكم إلا ليعيدها إليكم في أقرب الآجال الممكنة".

وأوضح ولد محمد السالك أن أهدافه وأهداف رفاقه في الجيش واضحة وبسيطة تتمثل في ضرورة التقويم السياسي والاقتصادي..

مضيفا أن اللجنة العسكرية "مقتنعة بأن الحرب التي فرضت عليها هي أحد الشواغل الكبرى لشعبنا, وفي نفس الوقت فإننا مصممون على أن نجد حلا لها يتناسب مع المصالح العليا للشعب الموريتاني, وبالاتفاق مع المملكة المغربية الشقيقة المعنية مثلنا بنفس الدرجة"...

وحول العودة إلى المؤسسات الدستورية قال قائد أول انقلاب عسكري في تاريخ موريتانيا إن نظامه العسكري "سيعكف -ومن الآن- على تحضير مؤسسات جديدة.. وسيتم قريبا تعيين لجنة استشارية لدراسة دستور جديد."..

أما بخصوص السياسة الخارجية فقد أكد ولد محمد السالك على أن القيادة العسكرية الوليدة في البلد تستوحي عملها "بصفة خاصة من الحوافز الوطنية, فإننا سنأخذ مصالحنا حيثما وجدناها" مشيرا إلى أن هذه القيادة متمسكة بقوة بما يلي:

1.  إيمانها بالوحدة الإفريقية والوحدة العربية وضرورة التعاون العربي- الإفريقي.

2. تعلقها بالتجمعات الإقليمية والجهوية مثل منظمة استثمار نهر السنغال والروابط الاقتصادية لغرب إفريقيا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا..

3. انتماءها الكامل لمواثيق منظمة الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية وجامعة الدول العربية.

4. دعمها للشعب الفلسطيني وشعوب زمبابوي وناميبيا وجنوب إفريقيا في نضالها التحرري الوطني.

5. تصميمها على احترام كل الاتفاقيات المبرمة باسم موريتانيا؛ والتي تضمن مصالح شعبها..

6. إيمانها بمبادئ عدم الانحياز ومثل منظمة المؤتمر الإسلامي..

7. تضامنها مع دول العالم الثالث الأخرى في نضالها من أجل إقامة نظام اقتصادي دولي أكثر عدالة وأكثر إنصافا.(...) ".

بيد أن أيا من هذه الوعود والالتزامات لم يتحقق بفعل بروز خلافات داخل الجهاز العسكري الحاكم من جهة, وبفعل قصر المدة التي قضاها ولد محمد السالك في الرئاسة؛ ففي صبيحة السادس من ابريل 1979 -أي بعد ثمانية أشهر على الإطاحة بنظام الحزب الواحد- استولى المقدم أحمد ولد بوسيف المدعوم من بعض الضباط البارزين مثل المقدم محمد ولد اباه ولد عبد القادر الملقب "كادير" والمقدم أحمد سالم ولد سيدي, على زمام السلطة ليعلن عن قيام لجنة عسكرية للخلاص الوطني تولى منصب النائب الأول لرئيسها بصلاحيات كاملة ومنصب رئيس للحكومة بصلاحيات كاملة أيضا؛ مبقيا على المقدم ولد محمد السالك رئيسا رمزيا للجنة والدولة..

تحرك المقدم ولد بوسيف أعاده المراقبون -حينها- إلى عدم إشراكه في انقلاب العاشر من يوليو رغم أنه واحد من أبرز الضباط والقادة العسكريين في حرب الصحراء.. كما أرجعه البعض إلى صراع داخل الجهاز العسكري الحاكم بين بعض الضباط من ذوي التوجه القومي وآخرين غير متحمسين لمثل هذا التوجه.. وكان هناك خلاف أيضا على طريقة وقف الحرب والسبيل إلى "مخرج مشرف" منها..

البيان الذي أصدرته القيادة العسكرية في تشكيلتها الجديدة التي خرج منها عدد من الضباط الشباب -خاصة الرائد جدو ولد السالك وزير الداخلية، الرجل الثاني في النظام بعد ولد محمد السالك- أوضح أن الجهاز الحاكم لم يكن منسجما ولا واضح المعالم حيث اعتمد في تكوينه على "سياسيين قدماء وشبان خياليين" في إشارة إلى شيخنا ولد محمد لغظف والرائد، ومحمد يحظيه ولد ابريد الليل..

في الثلث الأخير من شهر مايو من العام نفسه توفي المقدم أحمد ولد بوسيف في حادث تحطم طائرة عسكرية كانت تقله مع عدد من المسؤولين في حكومته للمشاركة في قمة لمجموعة غرب إفريقيا الاقتصادية بداكار.. ومع أن السلطات السنغالية باشرت التحقيق في الحادث بمشاركة بعثة موريتانية قادها المقدم "كادير" إلا أن الغموض ظل يخيم على أسباب الحادث, ولم يعثر على جثث المفقودين حسب الرواية الرسمية آنذاك.. وفي خطوة غير متوقعة أسند منصب النائب الأول لرئيس اللجنة العسكرية ورئيس الوزراء للمقدم محمد خونا ولد هيداله رغم أن ميثاق اللجنة العسكرية ينص على تولي المقدم أحمد سالم ولد سيدي لهذا المنصب باعتباره النائب الثاني (بعد ولد بو سيف) لرئيس اللجنة العسكرية..

وفسر هذا الإجراء بأنه جاء حلا وسطا لتجاوز خلاف بين بعض الأعضاء النافذين في القيادة العسكرية, حيث كان ولد هيداله ضمن قلة من الضباط غير متورطين في الصراع الداخلي المذكور..

إثر وفاة أحمد ولد بوسيف أعلنت استقالة العقيد المصطفى ولد محمد السالك من رئاسة اللجنة العسكرية والدولة ليخلفه في هذا المنصب الرمزي المقدم محمد محمود ولد أحمد لولى..

وصول ولد هيداله إلى القيادة أعقبه بشكل غير متوقع هجوم لجبهة البوليساريو على مدينة تشله الصحراوية الخاضعة لموريتانيا, في انتهاك مفاجئ لقرارها وقف إطلاق النار من جانب واحد..

وفي 5 أغسطس 1979 وقعت موريتانيا وجبهة البوليساريو اتفاقية سلام في الجزائر؛ وهو ما أثار حفيظة العاهل المغربي الحسن الثاني الذي أمر قواته بالسيطرة على إقليم وادي الذهب قبل انسحاب القوات الموريتانية والإدارة المدنية منه..

وأعلن محمد خونا ولد هيداله رسميا اعتراف موريتانيا بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية..

ولد هيدالة يحكم قبضته على السلطة

في الرابع من يناير 1980 أصدرت اللجنة العسكرية للخلاص الوطني بيانا جاء فيه أنه تمت إعادة هيكلة اللجنة ليتولى المقدم محمد خونا ولد هيداله رئاستها ورئاسة الدولة والحكومة ووزارة الدفاع..

أول تعليق رسمي على هذه التغييرات جاء على لسان الناطق الرسمي باسم اللجنة العسكرية النقيب البحري دحان ولد أحمد محمود الذي قال في ندوة صحفية عقدها بالمناسبة: "إن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني أجرت تغييرات مهمة من أجل ملاءمة هيكلتها مع متطلبات وضعية البلاد" مضيفا أن اللجنة "تخلصت بموجب إعادة الهيكلة هذه من كل الذين لا يساهمون بالتزام وعزيمة في عملية التقويم الوطني"...

أبرز من تم التخلص منهم المقدم أحمد سالم ولد سيدي والمقدم محمد ولد اباه ولد عبد القادر، وهو ما اعتبرته الأوساط المهتمة بالشأن السياسي في البلد تصفية لتيار مناوئ للتيار الذي دفع بولد هيدالة إلى صدارة القيادة.. وبعد فترة وجيزة ترك الرجلان البلاد ولجآ إلى المغرب؛ الأمر الذي يؤكد الطرح القائل بعدم رضاهما عن الطريقة التي خرجت بها موريتانيا من حرب الصحراء؛ والتي يبدو أنها لم تكن تتفق مع ما أعلن عنه المصطفى ولد محمد السالك في أول خطاب له بعد انقلاب العاشر يوليو 1978 حيث أكد أن البحث عن السلام سيتم بالتعاون مع المغرب.. كما أنها لا تتفق مع ما أراده الراحل أحمد ولد بوسيف الذي لم يخف اهتمامه بالعلاقة مع المغرب وعدم استعداده "للسلام بأي ثمن"...

الرئيس ولد هيداله عاد من زيارة إلى المغرب أ ثار حفيظته خلالها تعمد السلطات المغربية إعلان قيام "حركة الضباب الأحرار الموريتانيين" على أرضها بقيادة ولد سيدي وولد عبد القادر بهدف القيام بتغيير في موريتانيا.. فأصدر أمره بطرد القوات المغربية الموجودة على الأراضي الموريتانية بشكل فوري وعمل على توطيد العلاقات الموريتانية - الجزائرية وتوثيق الصلات مع جبهة البوليساريو..

ردة الفعل المغربية جاءت عنيفة من خلال تقديم السلاح والتدريب وتسهيل التنقل لحركة "الضباط الأحرار" التي شكلت "كومادوزا" للإطاحة بولد هيداله في 16 مارس 1981 لكن المحاولة الانقلابية فشلت نظرا لغياب ولد هيداله عن العاصمة وعدم انعقاد اجتماع اللجنة العسكرية المقرر ذلك اليوم.. وتم اعتقال قادة الكوماندوز وتقديمهم فيما بعد لمحاكمة عسكرية استثنائية حكمت على أربعة منهم بالإعدام الذي تم تنفيذه بعد أيام وهم:

 -أحمد سالم ولد سيدي.

 -محمد ولد اباه ولد عبد القادر.

 -انيانغ مصطفى.

 -محمد ولد دود سك.

وأصدرت أحكاما على العديد من الشخصيات المعارضة المقيمة في الخارج بتهمة التورط في هذه المحاولة الانقلابية الدامية, أهمها الحكم بالسجن مدى الحياة مع الأعمال الشاقة بحق الرئيس المختار ولد داداه، وبالإعدام بحق رجل الأعمال المقيم بداكار حابه ولد محمد فال..

جاءت محاولة 16 مارس الانقلابية ليصل تأزم العلاقة بين انواكشوط والرباط ذروته بقرار ولد هيداله قطع العلاقات الدبلوماسية مع المملكة المغربية, مع إضافة اسم المغرب -على جواز السفر الموريتاني- إلى البلدين اللذين يمنع السفر إليهما (إسرائيل وجنوب إفريقيا الخاضعة –وقتها- لنظام الميز العنصري)..

ولد هيداله وجه اهتمامه إلى الدول ذات الأنظمة الاشتراكية في إفريقيا والعالم العربي وغيرها.. وتدهورت علاقاته مع السنغال الحليف الاستراتيجي للمغرب.. ومع فرنسا بفعل دخوله ضمن ما تسميه باريس "محور الجزائر-باماكو- انواكشوط" والذي أصبح في صراع غير معلن مع محور تسميه انواكشوط "محور الرباط – باريس - داكار".

وكان ولد هيداله قد أصدر قانونا بإلغاء العبودية رسميا في البلاد؛ وهو ما أثار حفيظة بعض الزعامات التقليدية في الداخل.. وأمام العزلة المتزايدة على الصعيد الخارجي بفعل تعاطف دول الخليج العربي مع المغرب, وقوة العلاقة المغربية الأمريكية والمغربية الفرنسية, وما ترتب عن ذلك من أوضاع اقتصادية صعبة, بدأ ولد هيداله في تطبيق سياسة التقشف وسن العمل التطوعي.. وزاد من سوء الأوضاع الاقتصادية عودة الجفاف بشكل حاد؛ وهو ما دفع بالرئيس محمد خونا ولد هيداله إلى الدعوة إلى إقامة صلاة الاستسقاء سنة 1983..

تميز نظام ولد هيدالة بفرض صرامة حقيقية في مجال تسيير المؤسسات والقطاعات العمومية.. وسن الرجل طريقة الزيارات المفاجئة سواء على مستوى المصالح المركزية في انواكشوط أم على المستوى الجهوي؛ وهو ما حد - كثيرا- من التسيب الإداري وفرض احترام هيبة الدولة..

يسجل التاريخ لولد هيداله قراراته الشعبية التي تلقت ترحيب غالبية الموريتانيين مثل توزيع المساعدات الغذائية المجانية على الأسر الفقيرة (الإسعاف) وفرض رقابة صارمة على أسعار المواد الأساسية وإبقائها في متناول الجميع, وإلغاء الرق, ووقف الحرب، ورفض إملاءات المؤسسات المالية الدولية..

على الصعيد السياسي استحدث ولد هيداله نظاما جديدا مستوحى من بعض أنظمة الحكم في بلدان المعسكر الشرقي البوليسية, وهو نظام "هياكل تهذيب الجماهير" وأعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية.. واستمر الوضع يزداد صعوبة وتأزما على الصعيدين الداخلي والخارجي, وتنامت المعارضة في الخارج بموازاة سلسلة من الإضرابات داخل المؤسسات التعليمية ابتداء من أواخر عام 1982 وامتلأت السجون والمعتقلات، وغابت مؤشرات الانفتاح السياسي وحرية التعبير..

تغيير 12 /12/ 1984: بداية عهد معاوية ولد الطايع

في منتصف يوم الأربعاء 12 دجمبر 1984 أعلنت اللجنة العسكرية للخلاص الوطني المجتمعة في غياب رئيسها محمد خونا ولد هيداله -الذي كان يحضر مؤتمر القمة الفرنسية - الإفريقية في العاصمة البروندية بوجمبوره- قيام "حركة التصحيح" بقيادة العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع قائد أركان الجيش الوطني..

وتم الإعلان عن إعادة تشكيل اللجنة العسكرية للخلاص الوطني؛ حيث حل العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع، محل المقدم ولد هيداله..

وتم تشكيل حكومة جديدة تميزت بدخول أول وزير من فئة الحراطين في تاريخ موريتانيا (مسعود ولد بلخير) وكذا باحتكار وزارات السيادة بيد العسكريين..

وفور الإعلان عن الإطاحة بالرئيس محمد خونا ولد هيداله انطلقت مسيرة شعبية عفوية باتجاه منزل الرئيس الجديد, معاوية ولد سيد أحمد الطايع في مقاطعة لكصر (مقر إقامة الوزير الأول حاليا) تأييدا لـ"حركة التصحيح"..

وفي صبيحة الجمعة 21 دجمبر, وجه العقيد ولد الطايع خطابا إلى الشعب الموريتاني أعلن فيه عفوا شاملا بحق كافة المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي الموجودين في الداخل والخارج.. وشمل العفو الرئيس السابق المختار ولد داداه, ورئيس اللجنة العسكرة السابق المصطفى ولد محمد السالك, ورئيس وزراء الحكومة المدنية في عهد ولد هيدالة سيد أحمد ولد ابنيجاره..

إضافة إلى كل المعارضين والطلاب والتلاميذ الذين اكتظت بهم السجون خلال الفترة التي سبقت قيام حركة 12/ 12 التصحيحية.. وجاء في الخطاب:

"لقد تعهدت حركة 10 يوليو 1978 بإيقاف الحرب وتقويم الأوضاع الاقتصادية والمالية ووضع الأسس الكفيلة بإشاعة الديمقراطية في الحياة الوطنية.. وقد وجدت الحركة أمامها محيطا غير ملائم لتحقيق هذه الأهداف السامية, تطبعه الأزمة الاقتصادية الدولية والجفاف المزمن (...) وجلي أنه في وسط هكذا لم يكن هناك مجال للتبذير.. وبدلا من مواجهة هذه الوضعية بمسؤولية حقيقية, انتشر مؤخرا جو يطبعه اختلاس الأموال العمومية والتبذير والرشوة وحكم السلطة الفردية والعنف.. لقد صرف مجهود التضامن الذي شاركتم فيه بسخاء عن أهدافه الحقيقية واستخدمت أموال الدولة أسوأ استخدام؛ وأمام هذه الوضعية الخطيرة التي أصبحت تهدد بلادنا وتتنافى مع تعليمات اللجنة العسكرية للخلاص الوطني التي مافتئت تذكر بالأخطار التي تنجم عن ثقل هذا الانحراف على المستويين الاقتصادي والاجتماعي لشعبنا (...) ولقد تقررت إعادة التنظيم بتاريخ 12 دجمبر 1984 عندما لم يقم بالتضحيات الضرورية.. وتترجم إعادة التنظيم هذه التأكيد على ضرورة إعادة الثقة في الدولة عن طريق الاحترام الكامل للقوانين والنظم التي تشكل أساسا لتنظيم مجتمعنا وضمانة لحقوقه وتحقيق واجبات كل مواطن.. وكذا بالرفع من سمعة الدولة التي يجب أن تكون نابعة من شعبنا, وكذا للاحترام والتقدير لأنهما أفضل ضمان للحريات والنظام وخير سبيل لتحقيق طموحاتنا".

وأضاف الرئيس ولد الطايع في أول خطاب له إلى الأمة قائلا: "إننا سنفتح المجال لعدالة اجتماعية أكبر بالتوجه بالمواطنين إلى مساواة أكثر في الفرص -خاصة فيما يتعلق بالتعليم والصحة والشغل- عبر توحيد الإصلاح العقاري ومحاربة البطالة.. وفي الميدان الاقتصادي سنضمن دفعا اقتصاديا واستغلالا فعالا لمصادرنا بتشجيع الاستثمار والمبادرة الحرة.. وبعبارة أدق بتوجيه اقتصادنا طبقا لنموذج مرتكز على ذاته.. إن التاريخ جعل من بلادنا ملتقى للحضارات؛ كما أن الدور الذي يجب أن تقوم به من أجل تقارب الشعوب وإعادة الوئام والسلام إلى منطقتنا وعبر العالم, كله يستدعي منا مزيدا من الانفتاح".

بدأ العقيد ولد الطايع عهده بفتح مفاوضات مع مؤسسات التمويل الدولية بهدف الشروع في عملية تقويم الاقتصاد التي شكلت ثاني تعهد لحركة 10 يوليو 1978.. وفي نفس الوقت شرع في إعادة الدفء للعلاقات الموريتانية مع دول الجوار في كل من شمال إفريقيا وغربها.. حيث زار دول المغرب العربي والدول الإفريقية الغربية المجاورة لموريتانيا.. كما عادت العلاقات مع فرنسا إلى متانتها.. وعمل ولد الطايع على تبني موقف محايد -فعلا- من قضية الصحراء من خلال تأكيد الاعتراف بالجمهورية الصحراوية وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع المغرب..

بدأت عملية التقويم الاقتصادي والمالي من العام 1985 واستمرت خطتها الأولى إلى غاية 1988.. لتبدأ خطة جديدة أطلق عليها "خطة التدعيم والدفع" واستمرت ثلاث سنوات أخرى..

وفي سنة 1986 تحدث ولد الطايع عن ضرورة التعلم وإشراك المرأة في الحياة الوطنية، وذلك في خطاب ألقاه يوم 5 مارس بمدينة النعمة, وضمنه أبرز ملامح برنامجه السياسي..

وتم إنشاء كتابة للدولة مكلفة بمحاربة الأمية, كما تم تعيين أول وزيرة في الحكومة منذ قيام النظام العسكري في البلد.. وبموازاة مع التقويم الاقتصادي الذي هو ثاني تعهد للجيش عقب استيلائه على السلطة -بعد تحقيق السلام- دشن ولد الطايع مسلسلا ديمقراطيا من خلال تنظيم انتخابات بلدية تدريجية اقتصرت سنة 1986 على عواصم الولايات، لتتوسع في العام الموالي وتشمل عواصم المقاطعات، قبل أن تنظم بلديات ريفية سنة 1988.. وتم تجديد كافة المجالس البلدية سنة 1990..

وفي عام 1987 أعلنت السلطات العسكرية الحاكمة عن إحباط محاولة لقلب النظام كان يعد لها ضباط زنوج وتحمل طابعا عنصريا.. وأعدم المتهمون في هذه المحاولة بعد محاكمة عسكرية.. هذا الحدث شكل أول هزة تتعرض لها الوحدة الوطنية..

وفي إبريل سنة 1989 اندلعت مواجهات دامية بين المواطنين السنغاليين وأبناء الجالية الموريتانية في هذا البلد، ومواجهات مماثلة في موريتانيا بين المواطنين والسنغاليين المقيمين على الأراضي الموريتانية.. وخلفت هذه الأحداث ضحايا بشرية ومادية كبيرة.

ورغم أن السبب المعلن لما حدث كان حادثة قتل خلالها منمون موريتانيون من البولار مزارعين سنغاليين سوننكيين؛ إلا أن حكومتي البلدين تبنتا موقفا تصعيديا أدى إلى القطيعة واستمرار المناوشات وعمليات القرصنة على الحدود المشتركة.. ووصل الأمر إلى حد ادعاء السنغال سيادتها على الضفة اليمنى للنهر بناء على مرسوم صادر بتاريخ سنة 1933 عن السلطات الاستعمارية الفرنسية, فيما ادعت موريتانيا سيادتها التاريخية على مناطق الشمال السنغالي محتجة بمعطيات تاريخية منها أن الاسم الأول للنهر هو "نهر صنهاجة".. واضطر الكثير من الزنوج الموريتانيين للجوء إلى السنغال ومالي..

قبل ذلك بعامين تعرض نظام ولد الطايع لمحاولة انقلاب ذات طابع عرقي دبرها عسكريون زنوج كما تقدم.. وقد حوكم مدبرو تلك المحاولة من قبل محكمة عسكرية كالتي حاكمت منفذي محاولة انقلاب 16 مارس 1981..وحكم على ثلاثة منهم بالإعدام رميا بالرصاص..

في مطلع التسعينيات -وفي ظل التحولات الدولية الناجمة عن سقوط جدار برلين- أعلن الرئيس ولد الطايع عن استفتاء شعبي حول دستور تعددي جديد يتبعه قيام أحزاب السياسية غير محدودة العدد ويضمن ممارسة الديمقراطية.. وبعد المصادقة على الدستور نظمت أول انتخابات رئاسية تعددية شارك فيها ولد الطايع وفاز بها في الرابع والعشرين من يناير 1991 واتهم أحمد ولد داداه -المنافس الرئيسي لولد الطايع- النظام بتزوير الانتخابات؛ خاصة وأن النتائج الأولية كانت تشير إلى فوز ولد داداه قبل أن تظهر نتائج بعض المناطق الشرقية النائية لتقلب الموازين.. وهي مناطق كانت مراقبة عمليات الاقتراع وفرز الأصوات بها شبه مستحيلة على المعارضة والمراقبين.

18  إبريل 1992: الجمهورية الثانية

بدأ عهد النظام الديمقراطي الذي أسس له دستور 20 يوليو 1991 اعتبارا من الثامن عشر إبريل 1992 بتنصيب الرئيس المنتخب معاوية ولد سيد أحمد الطايع.. وتم -في نفس الوقت- تشكيل حكومة مدنية تولى منصب الوزير الأول فيها سيدي محمد ولد بوبكر.. وبرز حزب اتحاد القوى الديمقراطية الذي أسسه معارضو النظام العسكري السابق سنة 1991 كأكبر تشكيلة سياسية معارضة؛ بينما برز الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي كحزب حاكم بعد أن سيطر على البرلمان في الانتخابات التشريعية التي جرت مطلع إبريل 1992 وقاطعتها المعارضة.. الحزب الحاكم عقد مؤتمره الأول سنة 1993 وانتخب الرئيس ولد الطايع رئيسا له.. أما أحمد ولد داداه فقد أصبح رئيسا لاتحاد القوى الديمقراطية الذي أضيفت له بالمناسبة عبارة "عهد جديد" التي كانت شعارا يحمله ولد داداه في الانتخابات الرئاسية..

وهكذا بدأ العهد الديمقراطي في ظل انتشار للصحافة الحرة التي بدأت تتناول الأحداث والملفات المهمة في البلد بالكثير من الحرية والنقد.. وكشفت الصحافة المستقلة عن الكثير من الأمور الحساسة التي كان بعضها من قبل ضمن دائرة الخطوط الحمراء.. وأثارت عددا من فضائح الفساد الإداري والمالي والنواقص السياسية والقانونية؛ خاصة إبان إضافة المادة 104 للدستور، والتي أثارت زوبعة عاصفة في الساحة الوطنية.

وفي منتصف التسعينات بدأت الصحافة تشكل مصدر إزعاج حقيقي للسلطة, فبدأ مسلسل المصادرات وحظر الصحف.. واستحدثت السلطات أسلوبا للحد من تأثير الصحافة من خلال إفساح المجال أمام منح الرخص وتضييق الخناق -ماديا وقانونيا- على "السلطة الرابعة".. وتبنت أسلوب السيطرة عليها من خلال إصدار صحف تابعة لها تحت غطاء الاستقلالية وتقديم كل الدعم المادي والمعنوي للقائمين عليها.. وفي يناير 1995 -وعلى إثر ارتفاع مفاجئ في أسعار الخبز- شهدت انواكشوط مظاهرات صاخبة تم قمعها من طرف السلطات الأمنية واعتقل إثرها كل من حمدي ولد مكناس الرئيس الراحل لحزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم، وأحمد ولد داداه رئيس اتحاد القوى الديمقراطية/ عهد جديد, بعد خطاب مفاجئ للرئيس الراحل المختار ولد داداه من فرنسا.

بدأ هامش الحرية الذي فتح على مصراعيه بالمصادقة على دستور 20 يوليو ينحسر, من خلال استمرار حظر الصحف وتكثيف المصادرة واعتقال الزعماء السياسيين.. وهكذا تم حل حزب الطليعة الوطنية ذي التوجهات البعثية سنة 1999 بعد أن كان مشاركا في الائتلاف الرئاسي المؤيد للرئيس ولد الطايع من خلال وجود رئيسه الراحل خطري ولد الطالب جدو ضمن التشكيلة الحكومية.. ليأتي الدور بعد ذلك على حزب العمل من أجل التغيير الذي أسسه المعارض البارز مسعود ولد بلخير بعد خروجه من اتحاد القوى الديمقراطية/ عهد جديد، فقد تم حل حزب ولد بلخير مطلع العام 2002 بعد أن حقق نتائج إيجابية في انتخابات 2001 النيابية والبلدية.. التي كانت من أكثر الانتخابات شفافية نسبيا بفضل العمل ببطاقة التعريف الوطنية الجديدة غير القابلة للتزوير.

وكان حزب اتحاد القوى الديمقراطية/ عهد جديد الذي يقوده أحمد ولد داداه.. قد تم حله سنة 2000.

وشهدت سنة2001 اعتقال محمد الأمين الشبيه ولد الشيخ ماء العينين الذي نافس الرئيس معاوية ولد الطايع في رئاسيات 1997 -التي قاطعتها أحزاب المعارضة- وبعد محاكمة مثيرة للجدل في مدينة لعيون, وضع الرجل في السجن هناك إلى أن صدر بحقه عفو رئاسي عشية رئاسيات نوفمبر 2003..

عهد الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع شهد الكثير من الإنجازات على الصعيد الاقتصادي من خلال النهضة الزراعية التي سبقته, ومن خلال تشييد العديد من البنى التحتية خاصة الطرق والسدود, والمشاريع الإنمائية المختلفة.. وشهدت البلاد تطورا ملحوظا في مجال الاتصالات والتقنيات الجديدة؛ كما استفادت كثيرا من التمويلات الخارجية المهمة سواء من الهيئات المانحة أم من الدول الغنية.. إلا أن تفشي مظاهر الفساد وغياب رقابة صارمة على أداء المسؤولين حال دون تحقيق المزيد من التقدم والنماء.. ولعل ذلك ما دفع بالرئيس ولد الطايع إلى إنشاء شرطة خاصة بمكافحة الجريمة الاقتصادية والمالية، وإلى الحديث -لأول مرة- عن الفساد وضرورة الإصلاح, في الخطاب الذي ألقاه بمدينة كيفه يوم 15 يوليو 2004.. ومع أن عهد الرئيس ولد الطايع تميز بالاستقرار والأمن؛ حيث جعل من "التغيير في ظل الاستقرار" شعارا لحملته الرئاسية الأولى سنة 1992 إلا أن هذه الميزة تعرضت لهزة عنيفة حين تحركت مجموعة من الضباط في الجيش مستخدمة المدرعات في الثامن من يونيو 2003 في محاولة لإسقاط النظام بالقوة..

وكانت هذه المحاولة التي تمكنت القوات المسلحة النظامية من إفشالها -بعد 36 ساعة من المواجهات- دامية، حيث راح ضحيتها عدد من العسكريين والمدنيين في شوارع العاصمة.. ولم تثن هذه المحاولة الرئيس عن إجراء الانتخابات الرئاسية الثالثة من نوعها في الموعد المحدد لها وهو 7 نوفمبر من نفس العام..

وبعد مرور ما يربو على عام من تلك المحاولة الانقلابية أعلنت السلطات عن إحباط محاولة جديدة لقلب النظام بتدبير من قادة المحاولة السابقة الذين اتخذوا من بوركينافاسو ملاذا لهم. واتهمت السلطات الموريتانية كلا من هذا البلد وليبيا بالعمل على زعزعة أمنها واستقرارها من خلال تدريب وتمويل وتسليح الانقلابيين..

وأدت التطورات الجديدة إلى تأزم غير مسبوق للعلاقة -المتوترة أصلا- بين السلطة والمعارضة، وهو ما نجم عنه تصعيد إعلامي بين الطرفين شككت خلاله المعارضة في صدق رواية النظام حول موضوع المحاولة الانقلابية المعلن عن إحباطها في الثامن من أغسطس 2004.. وتمكن السلطات الأمنية من اعتقال أبرز قادة الحركة الانقلابية صالح ولد حننه في روصو بعد إلقاء القبض على النقيب عبد الرحمن ولد ميني في انواكشوط.

واعتقل عسكريون ومدنيون آخرون بتهمة التورط في المحاولة الجديدة-القديمة.. ووجهت التهمة رسميا إلى أحمد ولد داداه زعيم تكتل القوى الديمقراطية المعارض, والشيخ ولد حرمه رئيس حزب "حمد" غير المرخص, ورئيس الدولة السابق محمد خونا ولد هيداله, بتقديمهم مبالغ مالية للانقلابيين, حسب الرواية الرسمية..

وفي الحادي والعشرين من شهر نوفمبر 2004 بدأت محاكمة المتهمين في وادي الناقة من طرف المحكمة الجنائية بولاية اترارزة.. وفي مطلع السنة الموالية، صدرت الأحكام بالسجن المؤبد بحق قادة تنظيم فرسان التغيير البارزين وبفترات متفاوتة بحق كل من شملهم ملف المحاولتين الانقلابيتين..

فيما تواصل في انواكشوط استجواب أبرز قادة التيار الإسلامي, وهم الشيخ محمد الحسن ولد الددو والمختار ولد محمد موسى ومحمد جميل ولد منصور، بتهمة نشر صور على الانترنت على أساس أنها لمعتقلين يتعرضون للتعذيب، ثم تمت إحالتهم إلى السجن المدني بالعاصمة..

من أبرز قرارات الرئيس معاوية ولد الطايع إشراكه لفئة الحراطين في السلطة التنفيذية؛ حيث كان أول من عين أحدا منهم في منصب وزير فور وصوله للسلطة سنة 1984 وبعد أن زاد عدد هؤلاء في الحكومة أقدم سنة 2003 على تعيين وزير أول من هذه الشريحة التي كانت مهمشة تماما في السابق.. ومن قراراته التاريخية كذلك فرض استخدام اللغة العربية في الدوائر الحكومية كلغة رسمية للبلاد,.. وإصدار قانون يمنع استغلال الأشخاص والمتاجرة بهم, وإقرار مدونة للأحوال الشخصية وقانون بإجبارية التعليم..

تحول 3 أغسطس 2005 والانتقال إلى الجمهورية الثالثة

استيقظ الموريتانيون فجر يوم الأربعاء الثالث من أغسطس 2005 على ملامح تغيير ما.. وانتشرت الشائعات سريعا بين قائل إن الرئيس معاوية ولد الطايع تعرض لمحاولة انقلابية لكن أمنه الرئاسي أحبطها، وهو يسيطر على العاصمة استعدادا لعودة الرئيس من المملكة العربية السعودية نفس اليوم.. وبين قائل إن بعض كبار الضباط استولوا على السلطة في غيابه..

سيطر الغموض على الوضع العام، في ظل التأكد من أن قوات الأمن الرئاسي اعتقلت أثناء الليل كلا من قائد أركان الجيش الوطني، العقيد العربي ولد سيدي عالي، وقائد أركان الحرس الوطني العقيد عينينا ولد أييه، واستمرار محاصرة قيادة أركان الدرك سعيا لاعتقال قائده، العقيد سيدي ولد الريحة..

كان الرئيس ولد الطايع في هذه الأثناء عائدا من المملكة العربية السعودية حيث شارك في تشييع جنازة الملك فهد بن عبد العزيز.. أما الوزراء فكان أغلبهم خارج العاصمة في إجازتهم السنوية التي بدأت للتو، وبعضهم في النعمة يحضرون لزيارة "السيد الرئيس" المقررة إليها في غضون أيام..

أمام مقر الحزب الجمهوري الحاكم احتشد جل المسؤولين الحكوميين والسياسيين لمتابعة تطورات الوضع لاتخاذ الموقف المناسب.. وكان هم هؤلاء الأول تجنب تكرار اختفائهم عن الأنظار أثناء محاولة يونيو 2003 الانقلابية، وما نجم عن ذلك من إقالات في قيادة الحزب وفي الحكومة..

وفي هذا الخضم بادر حمود ولد عبدي -وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة- بـ"الاتصال" بقناة الجزيرة ليعلن ولاءه للرئيس ولد الطايع ويدعو الموريتانيين إلي رفض هذه المحاولة الانقلابية على الشرعية الدستورية.. على حد تعبيره.

مع انتصاف النهار صدر البيان الأول للحركة الانقلابية قاطعا الشك باليقين، ومعلنا قيام مجلس عسكري للعدالة والديمقراطية.. وأوضح البيان أن البلد شهد انحرافات خطيرة في الفترة الأخيرة، وأن القوات المسلحة ستضع أسس الديمقراطية الحقيقية ودولة القانون والمؤسسات خلال مدة لا تزيد عن سنتين..

أعلن فيما بعد عن تشكيلة القيادة الجديدة برئاسة العقيد اعلي ولد محمد فال المدير العام للأمن الوطني طيلة عشرين عاما من حكم معاوية ولد الطايع..

أمر قادة موريتانيا الجدد وزراء ولد الطايع بقطع إجازاتهم والالتحاق الفوري بمكاتبهم وانتظار ما يصلهم من تعليمات..

ولم يمض سوى أيام حتى تم الإعلان عن حكومة انتقالية مدنية يقودها أول وزير أول في ظل حكم الرئيس معاوية..

وضمت تشكلة سيدي محمد ولد بوبكر وزراء سبق لولد الطايع أن أسند لهم حقائب وزارية مهمة، مثل وزير خارجيته السابق أحمد ولد سيد أحمد -مهندس التطبيع مع إسرائيل- الذي احتل المنصب ذاته.. وعبد الله ولد سليمان الذي شغل منصب وزير للشؤون الاقتصادية والتنمية في العهد نفسه، والذي أسند له العسكر حقيبة المالية..

توالت ردود الفعل داخليا عبر ترحيب المعارضة بسقوط نظام ولد الطايع، واندفاع الموالاة في إعلان الولاء للحكام الجدد.. بينما نظم عدد من أنصار الرئيس المطاح به مسيرات محدودة رفعوا خلالها صوره واللافتات المنددة بالانقلاب..

وعلى الصعيد الخارجي رفضت واشنطن عملية استيلاء الجيش على السلطة في انواكشوط مطالبة بإعادة الرئيس المنتخب دستوريا إلى مكانه، قبل أن تتراجع عن هذا المطلب وتقبل بانتظار ما ستسفر عنه المرحلة الانتقالية.. وتبنت فرنسا موقف المتفرج على الأحداث في مستعمرتها السابقة؛ في حين أوضحت إسرائيل أن ما حدث "شأن موريتاني داخلي"..

أما الاتحاد الإفريقي فعلق عضوية البلد حتى يعود للشرعية الدستورية؛ لكنه عين موفدا خاصا إلى موريتانيا بهدف مواكبة المسار الانتقالي الديمقراطي فيها.. وأوفد الاتحاد الأوروبي بعثة إلى انواكشوط للقاء الحكام العسكريين، وسماع موقف الفاعلين السياسيين والمجتمع المدني بشأن ما جرى. وقد تمكنت السلطات الانتقالية من كسب تأييد تلك الأطراف ووقعت مع الأوروبيين على وثيقة تضمنت شروط عودة الأمور إلى مجاريها بين الطرفين..

علق المجلس العسكري العمل بدستور البلاد (باستثناء ما يتعلق بالإسلام والحريات) وأصدر ميثاقا دستوريا يحل البرلمان بغرفتيه ويحيل السلطة التشريعية للمجلس.. وبفضل تقبل الطبقة السياسية ومنظمات المجتمع المدني لهذا التغيير، دعت السلطات العسكرية إلى أيام وطنية للتشاور شاركت فيها كافة الفعاليات السياسية والمجتمع المدنين وأسفرت عن توافق وطني حول أجندة المرحلة الانتقالية، وعن تأجيل الخوض في قضايا مثل المبعدين، والإرث الإنساني، ورواسب الرق، إلى ما بعد انتخاب سلطة دستورية..

وبموجب ما عرف بوثيقة "الإجماع الوطني" تم تشكيل لجنة وزارية مكلفة بالمسار الديمقراطي من حيث مراجعة الدستور بما يضمن التناوب السلمي على السلطة وتشكيل لجنة انتخابية وطنية مستقلة.. ولجنة وزارية مكلفة بإصلاح الاقتصاد وإرساء قواعد الحكم الرشيد.. فيما شكلت لجنة ثالثة عهد إليها بإصلاح القضاء وإرساء العدالة.. وتقرر تقليص الفترة الانتقالية من عامين إلى 19 شهرا..

في 25 يونيو 2006 صوت الموريتانيون في استفتاء شعبي على تعديل بعض فقرات دستور 20 يوليو 1991 تتعلق بمدة الفترة الرئاسية وعدد المأموريات المسموح بها لتولي رئاسة الجمهورية؛ فضلا عن وضع سقف أعلى لسن من يحق له الترشح للرئاسة..

وبموجب هذه التعديلات التي حظيت بأغلبية كبيرة من الأصوات قاربت 80% أصبحت الفترة الرئاسية خمس سنوات بدلا من ست، ولم تعد قابلة للتجديد أكثر من مرة واحدة؛ بينما حدد أعلى سقف لسن من يترشح للرئاسة 70 سنة.. وتضمن الدستور المعدل نص اليمين الدستورية التي يؤديها أي رئيس منتخب للجمهورية قبل تسلم مهماته..

وفي شهر نوفمبر من نفس السنة نظمت انتخابات بلدية ونيابية متزامنة، لاقت ارتياح المراقبين المحليين والدوليين، مع بعض التذمر لدى أبرز الأحزاب السياسية من غياب الحياد التام لرئيس المجلس العسكري الحاكم، الذي اتهمته أوساط عديدة بدعم الترشحات المستقلة على حساب التشكلات السياسية..

في 11 مارس 2007 جرى الشوط الأول من الانتخابات الرئاسية بمشاركة عشرين مترشحا، أبرزهم أحمد ولد داداه، المعارض التقليدي للرئيس السابق معاوية ولد الطايع، ومسعود ولد بولخير أحد ألد خصوم هذا الأخير، والرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيداله، والناشط الزنجي صار إبراهيما، ومحافظ البنك المركزي في عهد ولد الطايع وعهد من أطاحوا به، وقائدا محاولة انقلاب 8 و9 يونيو 2003 صالح ولد حننه، ومحمد ولد شيخنا.. هذا بالإضافة إلى سيدي ولد الشيخ عبد الله، الذي عمل وزيرا للاقتصاد والمالية في عهد الرئيس المؤسس المختار ولد داداه، ثم أسند إليه ولد الطايع حقيبة الصيد والاقتصاد البحري، قبل أن يقيله على خلفية قضية فساد لم تنكشف ملابساتها تماما..

تأهل ولد الشيخ عبد الله وأحمد ولد داداه لخوض شوط ثان أسفر عن فوز الأول بكرسي الرئاسة، بعد أن أعلن الزين ولد زيدان (15% من الأصوات في الشوط الأول) ومسعود ولد بولخير (9%) دعمهما له..

في 19 إبريل 2007 تم تنصيب سيدي ولد الشيخ عبد الله رئيسا للجمهورية في حفل علني حضره رؤساء دول وحكومات إفريقية، ووفود من بلدان مختلفة، وتم خلاله تبادل المهمات بين الرئيس الانتقالي العقيد اعلي ولد محمد فال والرئيس المنتخب..

 

السفير.. العدد رقم: 600، الصادر بتاريخ 27 نوفمبر 2007