الرسائل من جاليتنا بالولايات المتحدة تترى حول موضوع قرار الحكومة بيع مقر إقامة السفير الموريتاني في واشطن، وفي ظل عدم تجاوب السلطات مع هذه النداءات بإلغاء قرار البيع لكون الموضوع لم يطرح أصلا للاستفتاء الخارجي أو الداخلي، بل وحتى لم يعرض على البرلمان لأنه لا يتطلب كل ذلك لكونه شأن حكومي تقديري يعود اتخاذه إلى سياسة الحكومة في تسيير شؤون البلد الخارجية كما يعود لها القرار في تسيير شؤونه الداخلية.. وهي من أجرت الاستشارة الفنية لتقييم حالة المقر وتقدير تكاليف صيانته، لأن لا جهة أخرى من صلاحياتها القيام بذلك، وهي من أرتأت طبقا لذلك التقييم بيعه وشراء بديل عنه ترى أنه أكثر ملاءمة أيا كان مكانه في واشنطن، فالمهم أن يكون وافيا بالغرض.
في ظل عدم تجاوب الحكومة مع المطالبات بإلغاء قرار اتخذته طبقا لتقديرها وصلاحياتها إذن، فإنه لم يبق أمام المطالبين بالعدول عن القرار كشأن داخلي، إلا طلب اجتماع عاجل لمجلس الأمن لبحث الموضوع، على غرار اجتماعه بطلب من الأمم المتحدة غداة تفجير طالبان لمعبد بوذا في أفغانستان كعمل " ضد الحضارة والتاريخ الإنساني "..! ولم يكن من المفاجئ التقاط آخرين داخل الوطن للموضوع كمادة دسمة في حربهم الإعلامية على نظام " يأتونه أعل مدح أرسول " شيطنة لكل ما يقوم به، وبذلك أصبح القيام باستشارة فنية لتقييم وضعية هذه البناية وأيهما أجدى، ترميمها أم بيعها، لا ينطلق من مصلحة عامة وإنما من خلفية تحصيلية هي، بالنسبة لهم، ديدن النظام في كل ما يقوم به!
أما نحن فلم تفاجئنا هذه الضجة، فقد واكبنا مثلها سابقا عندما أكد الفنيون المخاطر التي تهدد تجار سوق العاصمة جراء تهالك هذا السوق الذي لا يحتاج الناظر إلية لاستشارة فنية لقييم حالته، وعندما قررت السلطات بناء سوق غيره أكبر منه وأحدث مواصفات وأنسب لمتطلبات سوق في مركز عاصمة، ها هو في المراحل الأخيرة لبنائه وسيسلم لتجار السوق القديم بعد أشهر، عمت تلك الضجة الأرجاء وسال حبر الانتقاد، وتطايرت بيانات الأحزاب تنديدا بهذا الإجراء الذي لا هدف منه في نظرهم سوى الاستيلاء على أرض السوق القديم، وواكبنا مثلها أيضا عندما تقرر بيع بعض المدارس التي تم بناؤها أصلا في قلب عاصمة هو، مدنيا، مركز معهود للفنادق والبنوك وممثليات الشركات التجارية والصناعية والمحلات التجارية والزحمة والتسوق والتسويق، وليس للمدارس وما تتطلبه من أجواء سلامة وهدوء لا تتوفر عادة في مراكز العواصم والمدن.. فأخرج الموضوع أيضا من سياقه التخطيطي التنظيمي إلى سياق آخر تجاري تحصيلي!
ميناء أنجاكو متعدد الاستخدامات الذي تم وضع حجره الأساس بالأمس لا علاقة له بموضوع بيع مقر السفير، إلا أن جانب الصدفة هو ما يهمنا هنا فيه حيث تكفلت تلك الصدفة بالرد على حملة التشويش والاستغلال هذه، الداخلية منها أقصد، إذ اقتصرت رسائل الجالية بأمريكا على مجرد ملتمس بالتراجع عن القرار انطلاقا مما ترى أنه مكانة تاريخية أو استراتيجية للمقر المذكور، بينما ركب الآخرون الموضوع كمواضيع أخرى ما إن يُنزلهم موضوع منها من على ظهره حتى يعتلوا ظهر موضوع آخر!
فقد تم الحديث عن هذا الميناء منذ فترة، ورغم إدراكنا بأن الفترة الفاصلة بين بدء الحديث عن إنشائه وبين وضح حجره الأساس كانت فترة تصور ودراسة ورصد موارد وإعداد ملفات، إلا أننا لم نكن نتوقع أن وضع حجره الأساس بمبلغ 350 مليون دولار ( ما يناهز 120 مليار أوقية ) تمويلا من الدولة الموريتانية سيصادف ضجة بيع مقر السفير في واشنطن بمبلغ قيل إنه يتراوح ما بين ثلاثة وأربعة ملايين دولار ( مليار إلى مليار ونصف من الأوقية ) أي واحد من أل 120 مليار أوقية التي هي تكلفة الميناء!
أجرينا هذه المقارنة للوصول للاستنتاجات التالية، أولا أن ثمن مدرستين فقط من المدارس التي تم بيعها في السابق بمبلغ يزيد على 4 مليار أوقية وهي في قلب نواكشوط يساوي ثمن هذا المقر أربع مرات إذا ما تم بيعه بأربعة ملايين دولار! ونتساءل كيف يكون ثمن بناية تحفة، كما يصفونها في قلب واشنطن، وعلى بعد كيلومتر واحد من البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية كما يقولون، يساوي فقط ربع سعر ماسحة مدرستين في قلب نواكشوط؟! وإذا كان هذا السعر ليس هو السعر الحقيقي وأقل منه بكثير، والنظام " نظام تحصيلي "، فكيف يتخلى عن ملايين دولارات زيادة ويبيع المقر بأربعة ملايين دولار فقط؟!
ثانيا، فقد قال المحتال لراعي الغنم إعطني شاة من غنمك وإلا سأحول كل غنمك إلى خنازير، فقال له الراعي قولته المشهورة، ما دمت تمتلك هذه القدرات التحويلية فلماذا لا تحول الخنازير إلى غنم وتدعني أنا وغنمى..؟! ونطرح هذا التساؤل " السطحي " لكن الوجيه في نفس الوقت.. فإذا كان النظام سيبيع مقر السفير في واشنطن من أجل تحصيل أربعة ملايين دولار لنفسه، فلماذا لا يأخذ هذه الملايين الأربعة من أل 350 مليون دولار التي رصدها بالأمس لتشييد ميناء انجاكو مثلا؟! أو دعونا نترك موارد إنشاء الميناء جانبا، ونقتصر على قيمة ما تم تدشينه بمناسبة تخليد عيد الاستقلال من مشاريع حيوية قبل أيام، ونتناسى مع المتناسين والمتجاهلين لما سبقها من إنجازات، ونتساءل لماذا لا يأخذ النظام أربعة ملايين دولار من مخصصات هذه المشاريع؟ لماذا لا يترك ثمن مقر السفير مثلا، ويأخذ قيمته من ثمن طائرة الموريتانية للطيران؟
أو من موارد شبكة مياه سيلسيبابي؟
أو موارد منشآت تجمعي " صبها الله " و " أفدجار " بولاية كوركل، و" تنومند " بولاية آدرار؟
أو موارد المقاطع المكتملة من طريق أطارـ تجكجه وأطار ـ أزويرات؟
أو موارد محطات الطاقة الشمسية للثماني مدن؟
أو موارد محطة توجونين للطاقة الشمسية 30 ميكاوات؟
أو موارد ميناء الصيد التقليدي ب " فرنانه " جنوب نواكشوط وفك العزلة عنه وكهربته؟
أو موارد سد " سكليل " الكبير؟
أو موارد كهربة الأودية بولاية آدرار وتزويدها بأنظمة الري؟
أو موارد عشرات المدارس والمستوصفات التي أقامتها وكالة التضامن ودشنتها في أنحاء متفرقة من البلاد؟
أو موارد الكلية الحربية محمد بن زايد؟
أو موارد معهد اللغة الانجليزية المجهز بنواكشوط؟
أو موارد تشييد مبنى قيادة الأركان الجوية والمطار العسكري؟
أو موارد المصنع الكبير لملابس وأثاث ومستلزمات الجيش بمقاطعة الشامي؟
أو موارد مصنع حديد الخرسانة بمقاطعة الشامي أيضا؟
أو موارد مركز تربية وتحسين سلالات الإبل بنواكشوط؟
أو موارد مركز تربية وتحسين سلالات الأغنام والمنشآت الصحية والتعليمية والدينية بمدينة بنشاب الجديدة؟
أو موارد بناء مركزي إعادة تأهيل الأطفال المتنازعين مع القانون بمديني نواكشوط ونواذيبو؟
أو موارد المشروعات والمنشآت الجاري تشييدها والمنتظر انتهاؤها قريبا كشبكة مياه بحيرة أظهر بالحوضين، ومركز أمراض القلب ومركز أمراض الكبد والفيروسات بنواكشوط، والمستشفى الكبير بنواذيبو، وميناء تانيت، أو تلك المرصودة مواردها والمنتظر انطلاقها مستقبلا كمحطة 100 ميكاوات للطاقة الريحية ببولنوار، والمجمع الإسلامي ومسجد نواكشوط الكبير، والمركز الدولي للمؤتمرات وملحقاته بمحاذاة المطار، وجسر دوار مدريد، والاستراتيجية الزراعية المرصود لها أزيد من 250 مليار أوقية..؟
هذه كلها مشروعات ومنشآت حيوية واستراتيجية من بين أخرى لم نذكرها أصبحت واقعا وتشمل كافة المجالات التنموية من طرق وجسور وموانئ ومطارات ومعاهد وجامعات ومستشفيات وسدود ومساحات زراعية وقنوات ومنشآت ري لم نحسب قيمتها لكنها، بالتأكيد، بمئات المليارات وكلها مرصودة في ظل هذا النظام ويتم تسييرها من طرفه، أوليس في ذلك غنى له عن بيع مدرسة أو مقر سفير؟! في كل ذلك أيضا رد على القائلين بعدم ظهور لعائدات بيع ثلاث أو أربع مدارس في ميزانية الدولة، تلك العائدات التي ستصبح صفرية إذا ما قارناها بما بيناه أعلاه من مئات مليارات لا تظهر في ميزانية الدولة فحسب، بل وتظهر كذلك في المنشآت على الأرض، وفيه رد كذلك على المتسائلين العارفين ك " السائل عن بل العارف " عن نتائج مكافحة الفساد، فهذه هي نتائج مكافحة الفساد، أن ترصد الدولة الموارد الذاتية لتمويل مشروعاتها التنموية إلى أن وصل ذلك الرصد بالأمس إلى 120 مليار دفعة واحدة لا أعاد الله علينا زمانا كان الشركاء يمولون لنا المراحيض العمومية!
هناك صدفة أخرى بهذا الخصوص، هي أن مقر السفير المقرر بيعه كان في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية وعلى بعد كيلومتر واحد من بيتها الأبيض، والولايات المتحدة نفسها كانت سفارتها ومقر سفيرها ببلادنا لا يفصلهما كيلومتر واحد عن " بيتنا الرمادي " وإنما كانا ملاصقين له " الخالفه فلخالفه "، لكنها ارتأت نقل سفارتها إلى مكان آخر ترى حسب تقديرها وظروفها أنه أنسب لها رغم المكان الاستراتيجي للمقر الأول..
الجالية في الولايات المتحدة مشكورة، ولا شكر على واجب، على حسها الوطني وعلى مبادرتها وعرضها بالمساهمة في ترميم مقر السفير، لكن القضية ليست عجزا عن ترميم مبنى بدليل أن هذه الجالية تتذكر أن الرئيس الحالي زار مقر بعثة موريتانيا لدى الأمم المتحدة في نيويورك قبل سنتين وأمر باقتناء مقر جديد لها بدل مقرها القديم الصغير والغير مناسب، كما أشرف في السنة الماضية على وضع الأساسات لبناية من عدة طوابق ستكون مقرا لسفارة وبعثة موريتانيا لدى الاتحاد الإفريقي.. فكيف يعجز من يبني السفارات عن ترميم مقر لسفير؟! إلا أن السفارات، مثلها مثل المدارس، ليست متاحف ولا مواقع أثرية أو دور عبادة، وإنما هي بنايات تضم مصالح خدمية مدى ملاءمتها وصلاحيتها لتلك الخدمات هو ما يحدد الإبقاء عليها أو تغييرها..
وسيظل أمام الجالية في الولايات المتحدة وغيرها الكثير مما تقوم به خدمة لبلدها مما تقوم به الجاليات عادة خدمة لبلدانها، من خلال التحويلات المالية والاستثمارات في البلد والتعريف به من خلال الأنشطة الثقافية والعلمية، واكتساب الخبرات والتقنيات وجلبها للبلد، والمساهمة في تطوير الحياة في المواطن الأصلية لهذه الجاليات من خلال بناء المدارس مثلا، أو التبرع للمحتاجين أو التكفل بعلاج بعضهم، أو منح باص لنقل أطفال لمدارس، أو أجهزة تنقية مياه لمواطنين في الريف، أو إهداء سيارة إسعاف لمركز صحي، أو بناء سد لقرية ريفية إلى غير ذلك من الأنشطة المفيدة.. أما ترميم مقر سفير أو بيعه أو شراؤه أو بناء سفارة أو تغيير مقرها، فذلك من مهام الدولة تقوم به طبقا لأولوياتها وما تراه مناسبا.
محمدو ولد البخاري عابدين