أستطيع أن أقول بكل ثقة أن ما سميت يوما (بأم المعارك) في مدينة حلب قد حسمت وان كانت بعض الفصائل مازالت حتى كتابة هذه السطور تتحصن في أحياء قليلة جنوبية ، وتسعى لتحصيل شروط جيدة للخروج ، هي معركة متفق على أنها أكبر باهميتها من مساحتها الجغرافية ، هي نقطة صراع إرادات على مستو الإقليم ، وهي مرتكز لتثبيت مواقع نفوذ في المساحة الدولية ، هي كذلك مدخل لمسار جديد مختلف عما سبقه في الازمة السورية ، يستدعي مفاهيم واتصالات ومواقف مختلفة . هي بالتأكيد ليست نهاية مطاف الحرب الدائرة هناك ، لكنها نهاية شكل اللعبة التقليدي التي بدأت في العام 2011 ، بشكلها ومفاهيمها وادوار لاعبيها .
مساء أمس انتظر الكثيرون أمام الشاشة الصغيرة إطلالة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ، ليقول ما لديه عن معركة حلب ، التي وعد سابقا بأنه سينتصر بها لا محالة . لكن الرجل تجنب الخوض في خطاب النصر في معركة يعتبرها ( أم المعارك ) فعلا ،وذهب إلى تفاصيل الوضع الداخلي اللبناني وترك جملة واحدة في نهاية خطابة تقول ان مشاريع في المنطقة توشك على السقوط .
ربما غير نصر الله في الساعات الأخيرة مضمون خطابه قبل ساعات من اطلالته واقتصر على لبنان ، أو آثر التريث قليلا انتظارا للحسم الكامل في حلب . فثمة تعقيدات برزت خلال الساعات القليلة الماضية في الشمال والشرق السوري ، تنظيم الدولة شن هجوما كاسحا ومستميتا للسيطرة على مدينة تدمر شرقا وحقق تقدما في محيط المدينة ، المعلومات من هناك تقول ان التنظيم قد يدخل تدمر في أي لحظة ، تطمينات من داخل تدمر وصلتني عبر أحد الأصدقاء تقول ان الوضع مازال تحت السيطرة ، هذا لاينفي خطورة الوضع هناك . فإذا ما سيطر داعش على تدمر فإن الانتصار الذي حققه الجيش السوري والروس وحزب الله في حلب ، لن يكون بالشكل الذي يردونه ويحضرون للاحتفال به ، فضلا عن أن سيطرة داعش على تدمر سوف تحرج حلفاء دمشق وتضعهم في صورة من يركز على الفصائل في حلب التي تعترض واشنطن وحلفاؤها على محاربتهم ويخسر أمام داعشالإرهاب المتفق عليه دوليا والذي دخلت روسيا أساسا لمحاربته.
لم يكن متوقعا أن يتحرك تنظيم الدولة في هذا التوقيت تجاه تدمر شرقا ، وهي يواجه معركتين مصيريتين في الباب في ريف حلب وفي الموصل شمال العراق . قد تكون أولوية التنظيم الآن الاقتراب من الحدود العراقية عبر البادية السورية ، لتأمين الإمداد عبر الحدود و إمكانية التحرك بين سوريا والعراق .
أما شمالا فقد تحرك الأتراك بعيدا عن التفاهمات مع روسيا ، فقد كانت المعلومات تقول حتى وقت قريب إن الأتراك وجماعة درع الفرات التابعين مباشرة لها ،لن يدخلوا مدينة الباب في الريف الشمالي الشرقي لحلب ، فالغارة التي نفذها الجيش السوري على الجنود الأتراك في محيط مدينة الباب في الثالث والعشرين من الشهر الماضي ، كانت بالتنسيق مع روسيا وايران لإرسال رسالة مشتركة لانقرة بأنها تجاوزت الخطوط المتوافق عليها .بعدها نشطت الاتصالات على خط أنقرة طهران موسكو وزار وزير الخارجية التركية مولود تشاويش اغلو طهران بعد يومين من الغارة ورئيس وزراءها بن علي يلدريم زار موسكو بعد أربع أيام منها . وهو ما أوحى أن أنقرة عادت إلى مربع التنسيق ، ولكن تطورات الساعات الماضية تقول عكس ذلك ، فانقرة ارسلت 300 من نخبة الاقتحام إلى مدينة الباب ، بينما تقدمت قوات درع الفرات التابعة لها إلى شمال المدينة وخاضت معارك مع مقاتلي داعشفي محاولة لاقتحام المدينة . فهل سقطت مرة أخرى تلك التفاهمات؟ ، لماذا عقدت تركيا الميدان في الشمال تزامنا مع اقتراب الحسم في حلب؟ ، ما من شك أن تركيا تخلت عن خطوطها الحمراء في حلب المدينة ، وتخلت عن المسلحين فيها ، ولكن أصرارهاعلى دخول الباب يجعلها كمن يغير التكتيكات تجاه حلب وليس التخلي عنها تماما فهي ستصبح في الباب على بعد ثلاثين كيلو مترا من مركز المدينة ، وهي تعيد تأهيل الفصائل ذاتها التي تحارب في سوريا منذ ست سنوات لتكون تحت سيطرتها المباشرة وتحاول انتزاع شرعية لها من بوابة محاربة تنظيم داعش . ولكن هل تنسق أنقرة تلك الخطوات مع الولايات المتحدة، ما يعزز هذه الفرضية هو قرار واشنطن رفع توريد السلاح إلى الجماعات المسلحة في سوريا ، تزامنا مع تطورات الميدان في حلب. يبدو أن خصوم موسكو وحلفائها يردون أن يبرهنوا أن الحرب لم تنهي بعد ، وأن لديهم أوراق يمكن أن يلعبوها في الميدان تمنع قلب الموازين السياسية والعسكرية بشكل كامل لصالح معسكر روسيا . الأيام المقبلة سوف توضح الصورة أكثر .
كمال خلف