وانا أغادر مدينة حلب بعد ما يقرب العشرة ايام كانت حاسمة لمصير المدينة، كانت أخبار إحراق جبهة النصرة للحافلات المتجه إلى بلدتي كفريا والفوعة المحاصرتين من قبل جيش الفتح في ريف ادلب قد بدأت تتردد . وهو ما عطل اتفاق حلب كفريا الفوعة للمرة الثانية . تتحمل الفصائل المسلحة التعطيل في المرتين. في المرة الأولى أبرمت موسكو وأنقرة الاتفاق بشكل ثنائي ، وما أن أعلن فيتالي تشوركين في جلسة مجلس الأمن أن الاتفاق قد تم فعلا ،حتى أرتبك حلفاء موسكو في دمشق وطهران . كانت أخبار الجبهة حسب القادة الميدانيين تقول أنه يمكن حسم الأحياء الثلاثة المتبقية بسهولة ، وأنها بحكم الساقطة عسكريا ، كان الرأي في دمشق وطهران أن الاتفاق مجحف ولا يتناسب مع حالة الهزيمة المطلقة التي منيت بها الفصائل شرق حلب ، ويمكن أن يشمل أقله إخراج حالات حرجة من كفريا والفوعة .
كانت ثلاثة أيام سبقت الاتفاق الثنائي من أعنف ما شهدته الجبهة الشرقية في حلب ، كانت تسمع أصوات انفجارات عنيفة تهز فندق ميرديان الشهباء المطل على الأحياء الشرقية . ثلاثة أيام شهدت تقدم سريع للجيش السوري وحلفائه . تقدم الجيش السوري وسيطر على حي بستان القصر بينما تقدمت قوات حزب الله وانتزعت حي الشيخ سعيد تم اختراق جبهة حي السكري وانحصر المسلحون في حيي سيف الدولة وصلاح الدين والكلاسة ، باتت فرضية الإستسلام رائجة وتتردد بقوة ، خاصة مع ازدياد حالات تسليم المسلحين أنفسهم وسلاحم للجيش ، وخروج المئات من المدنيين ، تسربت صور واعترفات العناصر المسلحة من حركة نور الدين الزنكي الذين ذبحوا الطفل الفلسطيني عبد الله عيسى بعد اعتقالهم من قبل الجيش . وفر المدنيون الخارجون من الأحياء ذخيرة معلومات مهمة للجيش السوري عما يحدث داخل الأحياء المتبقية ، ساهم عدد من المدنيين فور خروجهم بكشف هوية مسلحين تسللوا بينهم .
دخلت كاميرا قناة الميادين إلى أكبر مستودعات السلاح في حي بستان القصر ، ونقلت على الهواء من أحد مستودعات الغذاء الذي كان وفيرا على عكس ما كان يروج من أن السلاح و الغذاء قد نفد .
وبالعودة إلى الاتفاق ، فقد تدارك الروس خطأ الاتفاق الثنائي ليل الخميس عبر اتصالات مكثفة أجرها فلاديمير بوتين مع الرئيس الأسد والرئيس الإيراني حسن روحاني ، قام روحاني بإجراء اتصال بالرئيس الأسد لأول مرة منذ انتخابه ، جرت اتصالات ميدانية على مستوى أدنى عبر رئيس الأركان الروسي والجنرال قاسم سليماني الذين وصلا إلى حلب و القيادة الميدانية السورية . وأصبح الاتفاق شاملا وليس ثنائيا وبات تضمين خروج المدنيين من كفريا والفوعة محل قبول لجميع الأطراف ، وتم الاتفاق على التنفيذ صباحا . توقف صوت المعارك والغارات والإنفجارات ونامت حلب ليلة هادئة تختلف عما سبقها من ليال كنا فيها لا نستطيع النوم من أصوات القذائف .
في الصباح تحركت الحافلات الخضراء التي أصبحت علامة فارقة في الحرب السورية ، وكابوسا للمسلحين الذين جربوها كخاتمة أخيرة لوجودهم في أكثر من منطقة من جنوب سوريا إلى شمالها . تحركت حافلات من معبر الراموسة إلى داخل الأحياء التي يسيطر عليها المسلحون وحافلات أخرى تحركت عبر ريف حماه وسط سوريا إلى ريف ادلب لإخراج إعداد من المدنيين والجرحى من كفريا والفوعة . خرجت عناصر جبهة النصرة في أولى الحافلات في اليوم الأول وعبر مناطق سيطرة الجيش نحو الريف الحلبي ومنها إلى ادلب . خرج القسم الأكبر من المسلحين وعائلاتهم ، أحرقت الفصائل كل شيء خلفها قبل الخروج المقرات والوثائق ، كنت أشاهد من سطح فندق ميريدان الشاهق الارتفاع سحب الدخان الأسود ينبعث من الجزء الجنوبي للأحياء الشرقية منذ فجر اليوم الأول للخروج ، أصوات أنفجارات كانت تسمع أيضا قيل أنها لمستودعات أسلحة .
في اليوم التالي تحركت الحافلات عبر الراموسة لنقل من تبقى داخل الأحياء . أحد المسلحين داخل الحافلة انتظر حتى وصل إلى تجمع لعدد من ضباط الجيش السوري كانوا يقفون للإشراف على عملية الخروج ، وعلى الفور ألقى قنبلة من شباك الحافلة نحوهم ، وبعدها أطلق النار . لم يصب أحد بالهجوم المفاجئ لكن كل شيء توقف . أنزل الجيش السوري المسلحين من الحافلة وجردوهم من السلاح وقاموا بتفتيشهم. اكتشف عناصر الجيش وجود سلاح نوعي وصواريخ متطورة داخل الحافلات المتوقفه و أسرى من الجيش ومختطفين مع الحافلات التي غادرت. تعقد المشهد ولم تفلح الاتصالات وعادت الحافلات إلى داخل الأحياء . فيما عادت الحافلات التي كانت في طريقها إلى كفريا والفوعة .
تكتشف وانت تجري مقارنة سريعة بين ما يجري على أرض الواقع وما تقرأه أو تتابعه عبر بعض وسائل الإعلام أن ثمة فارق كبير بينمها ، فالسكان في مدينة حلب يرون لك أينما ذهبت ، فظائع ارتكبتها هذه العناصر ، تلمس ارتياحيا عم المدينة بعد سماعهم أخبار خروج المسلحين . معاناة يومية من القصف المتكرر على الأحياء الآمنه ، الأرقام تتحدث عن 11 الف قتيل مدني في حلب جراء قصف الفصائل للمدينة بصواريخ غراد والهاون وجرار الغاز المتفجرة . المدينة اليوم مازلت بدون ماء وتعمد على ما يسيميه الحلبيون المناهل ، وهي آبار قليلة يعتمد عليها السكان للحصول على الماء بسبب تدمير الجماعات المسلحة لمحطة المياه الرئيسة في سليمان الحلبي . وهي كذلك بلا كهرباء تعتمد على المولدات بسبب تدمير الجماعات المسلحة للمحطة الحرارية وشبكات الكهرباء ، لمعاقبة المدينة التي تأخرت حسب زعم الفصائل عن الانضمام للثورة .
تعود الحياة اليوم تدريجيا إلى إحياء حلب ، قام المسيحيون في حي العزيزية بتزيين الشوارع لأول مرة منذ اندلاع الحرب استعدادا لإعياد الميلاد ورأس السنه . عمال محافظة حلب فتحوا الطرقات نحو قلعتها التاريخية التي تتوسط المدينة ، قام الأهالي بالتعاون مع بعض تجار المدينة باضاءة القلعة ، ووضع شجرة ميلاد ضخمة على بوابتها ، بينما سجل أكثر من رجل أعمال حلبي اسمه من داخل حلب وخارجها كمتبرعين لإعادة ترميم المسجد الأموي الكبير في الاحياء القديمة الذي دمرته الحرب .
كثير مما يمكن قوله عما عرفته وشاهدته وسمعته في حلب ، وكله يصب في حقيقة ثابتة رسخت في ذهني وقناعتي وانا أغادر حلب ، أن هذه المدينة بجوامعها وكنائسها بجامعاتها و نخبها بمسلميها ومسيحييها لا يمكن أن تتعايش مع أمراء من العصور القديمة يتناحرون ويتقاتلون وقضاة شرعيين لا يعرفون من الدين الا القسوة والغلظة وكراهية الآخر .
كمال خلف