الكتابة لم تعد اكسسوار ارستقراطي ولم تعد لعبة لتسلية العقول بل تحولت إلي مهمة تقويم للحياة ومعركة مقدسة من أجل القيم، وانفعال انساني طاهر ونقي ضد عموم الفساد والتلوث والتوحش، إنها حالة مزج مجهدة " بكسر الهاء" للابتكار والتطلع وللاستعادة والعود..!
إن الكتابة الحقة نمذجة وأمثلة " بفتح الثاء واللام" للحياة..!
عند الليبيين تأخر هدفي النمذجة والأمثلة لدى كثر من المدججين بالكلمة لمقارعة البندقية، ولاستباقها في اشعال الحروب وإذكاء لهيبها أو تقليب رماد احقاد وثأرات قديمة وتسويق حقائق ملوثة وأحياناً أكاذيب مقنعة، واجترار وتكرار الاساطير الزيرية "نسبة للزير" وحشوها في العقول والنفوس، وزراعة ثقافة الكراهية واعتمادها وتقديسها واعلائها والأدهى تبريرها، فتحولت المأساة الليبية إلي مشروع انتقام وكسب وتربح وفرصة ظهور وصعود وشعوبية للبعض، وسعى بعض من افتقدوا مزاياهم ونخبويتهم الممنوحة من "النظام البائد" إلي استخدام الكلمة وتسميمها ليعبروا عن وجودهم بالطرف الآخر المناقض وجودياً، وابتهجوا بحربهم الباردة ضد مستقبل ليبيا واستقرارها وسلامها..!
الغوبلزيون الجدد وكل من اعتادوا اتباع أهوائهم والنظر بعين واحدة "عين الرضا فقط أو عين السخط فقط" ظلمة لأنفسهم ولسواهم، وصناع تاريخ مزورون ومتزيرون زائفون مشوهون إما أنهم افتقدوا السلطة وفتات موائدها فاعتلوا منابر الكلمة وارتدوا اقنعتها ليتحسروا على مفقوداتهم، أو اشتهوا السلطة الجديدة ومغانمها فاستخدموا الكلمة وتزينوا بها ليعقدوا عقود الوصل وينعموا بثمارها..!
ليبيا لم تكن جنة وهي اليوم ليست كذلك أيضاً..!
فبراير منحت فرصة الكلام الذي صار هذياناً للجميع، والقلة الذين كانوا يعبرون عن آرائهم في عهد "النظام البائد" ويتحملون أوزار ذلك ومغباته، باتوا اليوم مجرد فئة قليلة ضمن العديد من أصحاب الآراء الذين امتهنوا بعد فبراير الصحافة والإعلام واتخذوهما وسيلة وسلاحاً، وهذا جيد ومبشر وذو فائدة كبيرة للجميع..!
للحروب أخلاقها ولامتهان الكلمة "اتخاذها مهنة" أخلاق أيضاً، والمساعي التي توجت بإعلان مدريد "يوليو 2015م " نادت ودعت للالتزام بأخلاق مهن الاعلام والصحافة، ووضعت اليد على الجرح الذي كان ومازال وسيظل نازفاً مادامت المدنية لم تصبح حياة وثقافة وروحاً لليبيين جميعاً، ولا يجب أن يكون اعلان مدريد مجرد رقصة استعراضية وومضة صدق عابرة لا تشد لها العزائم ويتجند لها الأجناد، بل على كل ممتشقي الكلمة وروادها وحتى مغتصبيها أن يلزموا أنفسهم ويلتزموا بأخلاق مهنهم، ويقدسوا الكلمة ويحفظوا حقها وحقوق مبدعيها وناظميها وتكون للإنسان قيمته الحقة في هذا المجال..!
أرى إن الشرط الأساسي لامتهان الكلمة وارتقاء منابرها هو الإنسانية، وعلينا جميعاً " أقصد أهل الكلمة والمتورطين بها" اتقان الإنسانية والتحول الطوعي من مسخ إنسان إلي إنسان حقيقي جسداً وروحاً وضميراً مهما صعب الأمر، وأن نكافح التوحش والتبهم في أنفسنا قبل غيرنا، ويجب أن لا تتحول الكلمة وإنسانها "ممتهنا" إلي سكاكين صدئة تزرع بالخواصر، وينبغي أن توقف نخاسة الكلمة قبل فوات الأوان، فقد كثر نخاسيهاّ وانحط مقامها بالاستهلاك السيئ وغياب القيم !.
اختصاراً لإعلان مدريد أقول: الكلمة متاع إنساني ومن فقد إنسانيته أو لوثها عليه أن يعتزل الكلمة البتة ..!!!.
بقلم / عبدالواحد حركات