وقطع بيان الخارجية المغربية قول كل مزايد من الباحثين عن إشعال نيران حرب جديدة وخلق توترات في منطقة تحاصرها القلاقل من كل مكان، فلقد أعلن هذا البيان بوضوح الرفض الكامل للتصريحات التي أدلى بها حميد شباط رئيس حزب الاستقلال المغربي والتي كرر فيها أغنية حزبه الممجوجة حول الحدود المغربية الممتدة إلى نهر السنغال، تلك التصريحات التي سكبت مزيدا من الزيت على نار خلافات موريتانية مغربية تعددت مؤشراتها في السنوات الأخيرة، خاصة وأن الرجل لمس وترا حساسا يتعلق بسيادة بلد دافع أبنائه عن استقلاله بتفان ودفعوا الثمن غاليا من دماء مئات الشهداء والمقاومين…
رغم أن تصريحات السياسي المغربي كانت صادمة، إلا أن أغلب المحللين اعتبروها مجرد هروب للأمام وسعي “استقلالي” للاستثمار السياسي في موضوع خارجي بحثا عن شعبية أبانت الانتخابات المغربية الأخيرة أن الحزب العتيد بدأ يفقدها لصالح أحزاب وهيئات سياسية مغربية تقدم بديلا مقنعا وخططا تنموية تفيد المغاربة في واقعهم الحياتي بعيدا عن الشعارات والعنتريات و”الكلام الكبير”..
تصريحات شباط هي الأحدث والأخطر في سياق حملة يرى الموريتانيون أن بعض الجهات المغربية بدأت تشنها على نواكشوط مؤخرا، كنوع من إظهار الرفض والاعتراض على مواقف موريتانية ترى فيها المملكة تجاوزا للخطوط الحمر ودخولا في منطقة ملغومة، خصوصا، ما يتعلق بقضية الصحراء الغربية، حيث أشعلت صور زعيم البوليزاريو إبراهيم غالي وهو يتجول بلباسه العسكري على شواطى المحيط الأطلسي غضبا مغربيا عارما، فالرباط مقتنعة أن ماحصل لم يكن ليتم لولا وجود تسهيلات موريتانية أو على الأقل قيام نواكشوط بغض الطرف، ولعل ما أفاض الكأس هو أن ذلك تم في ظرف زمني يتسم بتسارع التقارب الموريتاني الجزائري والذي توج بزيارة رئيس الوزراء الموريتاني الأخيرة للجزائر حيث استقبل من طرف الرئيس بوتفليقة في حفاوة لا تخطأ عين الخبراء دلالتها السياسية..
الخلافات الموريتانية المغربية ليست وليدة اللحظة، فحتى لو تجاوزنا مرحلة الاستقلال الموريتاني وما صاحبها، فإن السنوات الأخيرة وفي ظل حكم الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز كانت طافحة بالكثير من إشارات عدم الارتياج بين البلدين، ولعل البدايات كانت مع معارضة الرباط لدخول موريتانيا لمجلس الأمن، ثم التأجيل “المتعمد” لزيارتين كانتا مقررتين للرئيس عزيز للرباط، بحجة انشغال الملك، مرورا بما يراه الموريتانيين سعيا مغربيا للعب دور في شبه المنطقة وعقد تحالفات مع الجوار الإفريقي تقصي نواكشوط وتتعامل معها وكأنها “غير موجودة”..
المغاربة بدورهم يملكون قائمة طويلة من أسباب الغضب من سياسات حكام نواكشوط، ولعل الموضوع الأكثر إزعاجا للرباط، هو خروج موريتانيا من سياستها “الرتيبة والمألوفة” تجاه ملف الصحراء، ونزوعها نحو مقاربةجديدة أكثر دفئا مع البوليزاريو، بدءا من المشاركة في جنازة زعيم الجبهة الراحل محمد عبد العزيز، وليس انتهاء باستقبالات الرئيس عزيز لقادة البوليزاريو، ولعل ظهور العلم الصحراوي على شاشة التلفزيون الموريتاني مؤخرا وفي حضور رئيس الجمهورية، مع الحديث المتكرر في أروقة الدبلوماسية عن إمكانية فتح سفارة صحراوية في نواكشوط، لعلها أمور جعلت الرباط ترى أن الأمور زادت عن حدها وأن الصمت لم يعد ممكنا..
رغم الصخب الإعلامي وحديث الساسة المتشنج والمتهور، لا يتوقع المراقبون أن يسمح عقلاء البلدين بأن تصل الأمور إلى الحافة، فليس لدى الرباط ولا نواكشوط رفاهية الدخول في توتر جديد، كما أن المنطقة المزروعة بالقلاقل والاضطرابات ليست في حاجة إلى فتج جبهة مشتعلة جديدة، وبالتالي فلا مناص من الجنوح للتهدئة ورسم ملامح علاقات ندية تقوم على المصالح المشتركة وتتفهم الخصوصيات والمواقف السيادية لكلا البلدين، ولعل بيان الخارجية المغربية هو أول قطرة في سيل التهدئة بين الرباط ونواكشوط..