في سنة 1958 زار الرئيس والقائد الفرنسي العظيم الجنرال شارل ديغول ـ المعروف اختصارا ب ديغول ـ زار موريتانيا التي كانت آنئذ مستعمرة فرنسية وقام فيها بجولة قادته لأطار عاصمة دائرة آدرار آنذاك ,وقد ألقى السيد ابيير مسمير حاكم الدائرة يومها خطابا مشهورا أمام الجنرال ديغول قال فيه :
.Atar est pour la Mauritanie ce que est l’Ile de France pour la France. Il est le cœur politique par lequel bat la Mauritanie
أي: "إن مدينة أطار هي قلب موريتانيا النابض فهي بالنسبة للموريتانيين بمثابة "ليل دي فرانس" عند الفرنسيين".
القرارات المصيرية تُتَّخذ في الفضاءات الواسعة
لما زار الجنرال ديغول ضمن تلك الزيارة منطقة تيارت ووقف على قمة جبلها وتأمل بعينيه في الشمال الغربي للمنطقة ,فبدت له باتساع فضائها وجمالها الآسر وتنوع تضاريسها , تجرد من شخصيته المدنية وتقمص روح أمير الحرب المقاتل وقال :
Quel beau paysage de guerre
اتجه الجنرال ديغول إلى منطقة افديرك بتيرس زمور حيث استقبله الأعيان ووقف على قمة أحد الجبال الكثيرة هناك والتفت إلى مرافقه العسكري قائلا :
C’est dans les grands espaces qu’on prend les grandes décisions.
أي : :" في الفضاءآت الواسعة يمكننا اتخاذ القرارات المصيرية"
بعد سنوات من هذه الزيارة ذكر الجنرال ديغول في مذكراته أن قراره بإعطاء سكان المستعمرات الفرنسية حق تقرير المصير من خلا ل استفتاء "لا" أو "نعم" ,اتخذه على قمة جبل شاهق في منطقة نائية من شمال إفريقيا
وتوضح قرائن الأحوال أن أحد جبال منطقة افديرك هو المعني عند الجنرال ديغول.
خلال هذه الزيارة دشن دكول السكة الحديدية الرابطة بين منطقتي تيرس زمور وداخلت انواذيبو ,ووضع حجر الأساس لبناء عاصمة دولة تسمى موريتانيا ستحصل على استقلالها بعد سنتين من هذه الزيارة .
الرئيس محمد ولد عبد العزيز هو أيضا مثل ديغول كان جنرالا في الجيش ثم تحول إلى رعيم سياسي بارع ومخطط جيوستراتيجي ناجح. وكما كان ديغول بطل فرنسا في حربها الضارية ضد النازية، فإنه قاد بلاده إلى النصر على العدو في معركتها المعقدة والمتعددة الأوجه ضد الإرهاب.
وفي الشهر الأخير من هذه السنة 2016، وخلال وجود الرئيس محمد ولد عبد العزيز بربوع تيرس زمور الممرعة والجميلة ,زاره رئيس وزراء المغرب محملا برسالة اعتذار وود من ملك المغرب إثر تصريحات غير ودية تجاه موريتانيا صدرت عن بعض ساسة المغرب ,ومن الصدف السياسية أن مدينة ازويرات عاصمة تيرس زمور التي زارها رئيس وزراء المغرب بن كيران هي نفسها منطلق جبهة البوليزاريو في سبعينيات القرن الماضي ,حيث كانت موريتانيا ولو بصفة لم تأخذ شكل المواجهة مع المملكة الإسبانية تدعم نضال الشعب الصحرواي ضد المستعمر الإسباني ,فيجد أبناء منطقة الصحراء المؤآزرة والتضامن في مجتمع لا يشعرون داخله بالغربة باعتبار الانسجام الحضاري الناتج عن التطابق في الدين واللغة والعادات والتقاليد .
"عيون المها بين الرصافة والجسر..."
الفارق الزمني والفارق السيادي واختلاف طبيعة زيارتي رئيس فرنسا الجنرال دكول ورئيس موريتانيا محمد ولد عبد العزيز لتيرس زمور واضح.
غير أن تلك الجملة العميقة والمعبرة التي تفوه بها الجنرال ديكول قبل ثمانية وخمسين سنة من الآن و يوم وقف على قمة أحد جبال تيرس زمور تشكل رابطا فكريا مؤداه أن فضاءآت بلادنا الجميلة ملهمة لاتخاذ القرارات الهامة والحاسمة .
لذلك فإنني متأكد من أن وتيرة الإنجازات التي حقق الرئيس محمد ولد عبد العزيز ستزداد بعد عودته من تيرس زمور إلى العاصمة وهو الوطني الحريص على مصلحة شعبه ,لأن زيارته لتلك المنطقة الجميلة الآسرة ذات النباتات الجميلة والمتنوعة والتضاريس المتعددة ستزيده إلهاما ووضوح رؤية بل إنني أزعم ولو اتهمت بالانحياز لتفكير العجائز أن الفضاء آت الموريتانية الجميلة ملهمة .ويحدثنا التاريخ عن أعمال أدبية وفكرية وقرارات حاسمة كان جو المكان وجماله ومتعته النفسية سببا في إنجازها وما حكاية "عيون المها بين الرصافة والجسر" ببعيدة عنا ...( ⃰ ).
في الفترة الفاصلة ما بين زيارة دكول لآدرار وتيرس زمور سنة 1958 وفترة زيارة الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيزلتيرس زمور سنة 2016 تحقق على أرض موريتانيا من الإنجازات ما لو بعث الجنرال دكول ورآه لانبهر .
إنجازات في الواقع.. وأزمة في أذهان البعض...
هناك مشكلة كبيرة لا أدري في أي خانة أصنفها ولا كيف تمكن معالجتها وهي أن المعارض في بلادنا هو ذلك الشخص الذي يشترط فيه أن لا يعترف بأي حسنة للنظام وفي اعتقادي أن ضرر هذه الظاهرة أشد على المعارضة ذلك أن اعترافك بحسنات الخصم هو الذي يجعل الآخرين يصدقون بانتقاداتك له ولهذه الحالة تجليات في الفلسفة والفكر والأدب فمثلا كان من عادة المتنبي وهو الشاعر العبقري الملهم أن يظهر قوة منافسي ممدوحه ليكون تفوق الممدوح عليهم دالا على عظمته وقد كنت بالأمس أناقش مع أحد الإخوة المعارضين فقال لي إن موريتانيا تعيش أزمة خانقة فقلت له إن وجود أزمة دون مظاهرها مسألة غريبة إذ لا يوجد سجناء رأي في البلد وشوارعنا خالية من كل أشكال المظاهرات والاحتجاجات والطلاب والأساتذة والمعلمون لا يتظاهرون وكل منهم يؤدي دوره الطبيعي وعمال الموانئ يعملون في الموانئ .والأمن مستتب والحياة الدستورية غير معطلة ,والموظفون يتقاضون رواتبهم ثم أردفت قائلا لكل شيئ مظاهره وعلاماته الدالة عليه والأزمة التي قلت في الأذهان فقط فقال لي إن رضى الموريتانيين وعدم احتجاجهم دليل على حمقهم وتخلفهم وحينها فهمت أن الأزمة تصور ذهني أصبح يشكل أيديولوجية
إن عدم اعتراف بعض قوى المعارضة بما حقق النظام من إنجازات يجرد انتقادها الصادق لبعض الأخطاء والممارسات من صدقيته ,لذلك أصبح المواطن الموريتاني العادي يعتقد ــ بسبب عدم موضوعية المعارضة ـــ أن كل ما تقول تجاه النظام من انتقاد مجرد كذب وهذه أزمة حقيقية تعاني منها بعض قوى المعارضة , وهي ضارة جدا بها ولا أعتقد أنها قادرة على علاجها لأنها أصبحت جزءا من أيدلوجيتها ومنظومتها الفكرية .
أما أنا فتدعوني الموضوعية لأعترف بأن لكل حقبة سياسية موريتانية إنجازاتها وإخفاقاتها غير أن نفس الموضوعية تفرض علي أن أقول إن السيدالرئيس محمد ولد عبد العزيز حقق إنجازات غير مسبوقة
فعلى مستوى الأمن الذي هو مفتاح الحياة وجد قواتنا المسلحة وقوات أمننا في وضع يرثي له من حيث ضعف الوسائل وتردي المستوى المعيشي للأفراد ,مما مكن الإرهاب من أن يجعل من بلادنا مسرحا للعديد من العمليات المذلة لمكانة قواتنا المسلحة وقوات أمننا حينها ( عمليات لمغيطى وتورين والغلاوية ) وبفضل رؤيته الاستراتيجية وإيمانه بضرورة السيادة تم بناء المنظومة الأمنية لقواتنا المسلحة وقوات أمنها الداعمة على قاعدة صلبة ,تزاوج بين تحسين الظروف الاقتصادية للأفراد وتزويدهم بالوسائل والآليات الضرورية لحماية الحوزة الترابية ,مما أدى إلى مشاركة موريتانيا الفعالة في صناعة المقاربات الأمنية الإقليمية والدولية فمن كان يتصور مثلا أن لمغيطي سيكون به مطار وأن ولاته ستربط بشبكة الاتصالات وأن انبيكت لحواش ستصبح منطقة إدارية آهلة بالسكان وفيها مدرسة وشبكة مياه ؟
وعلى المستوى الإقتصادي أصبحت بلادنا مركز استقطاب وجذب للمستثمرين ,وذلك بفضل ما توفر من أمن ومن محفزات اقتصادية
فتضاعفت الإنجازات في مجالات البنى التحتية في مجالات الصحة والتعليم , وعلى المستوى الإجتماعي قطعت أشواط كبيرة في سبيل محاربة الرق من خلال ترسانة قانونية تجرم الرق وتردع ممارسه وخارطة طريق واضحة المعالم وكذلك من خلال محكمة خاصة بمعالجة متعلقات الرق كما فتحت وسائل الإعلام العمومية والخصوصية أمام قادة الرأي ولأول مرة في تاريخ البلاد لعلاج الظاهرة ,ونقاش متعلقاتها بحيث لم يعد الحديث في الرق ولا في غيره من الأمراض الاجتماعية والمعوقات الاقتصادية محظورا , وفتحت جبهات الحرب على الفقر وازداد تمثيل المرأة ,وفي مجال الحريات صنفت موريتانيا على رأس القائمة العربية والإفريقية في مجالات حرية النعبير.
لقد بلغت دبلوماسيتنا أسمى مدى يمكن أن تصله في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز حيث ترأست موريتانيا الإتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية
لقد تزامنت رئآسة محمد ولد عبد العزيز لموريتانيا مع العصر الفوضوي المعبر عنه سابقا بالربيع العربي والذي أصبح فيما بعد عصر الجحيم العربي ,ذلك الطوفان الذي تقمص صفة الثورة المنقذة فدمر البلاد والعباد وأشعل نيران الحروب والفتن في المنطقة العربية , حكمة السيد الرئيس محمد ولد عبد العزيز وصرامته وحنكته السياسية جنبت بلادنا ويلات ذلك الجحيم ,وأذكر من تنفعه الذكرى بأن السلطات الموريتانية في أيام موضة الربيع المذكور لم تمنع أي محتج ولا أي متظاهر من الاحتجاج والتظاهر كما أن وسائل الإعلام فتحت أمام قادة ومناضلي تلك الثورة الوهمية ,أما الشبكة العنكبوتية فلم تبخل بصياح ولا بنباح ,و لكن الشعب الموريتاني كان ذكيا حيث ميز بين الخبيث والطيب فلفظ بقوة وفضح بوضوح مخططات وأوهام تلك الثورة المزعومة والانتفاضة الكاذبة لتصبح مجرد وهم صار في خبر كان , (وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ).
محمد الأمجد ولد محمد الأمين السالم