منذ تفجر الأزمة السورية في اذار/2011 بقي الأردن الرسمي يملك لنفسه مساحة مختلفة في التعاطي السياسي معها وفي التبعات المحتملة مقدماً بذلك قراءة عاقلة أو واقعية على الأقل تنطلق من المصلحة الوطنية الأردنية أولاً مع الأخذ بعين الاعتبار أن الشارع الأردني كان منحازا بشكل شبه كامل لحركة الاحتجاجات التي بدأت في مدينة درعا السورية الحدودية ويعيش كما غيره من شعوب المنطقة فورة الربيع العربي ونشوة سقوط ثلاثة أنظمة عربية بدءاً من تونس ومصر وليبيا واليمن.
تلك القراءة الرسمية لم تنحاز بشكل عاطفي ومطلق للخيارات الشعبية؛ التي بدا واضحاً أن الإسلام السياسي وحركاته ممثلةً بتنظيم الأخوان المسلمين وحماس بالإضافة لمحازبي نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والتنظيمات الفلسطينية المنتشرة في مخيمات اللجوء هم محركوها بتلك الحدة؛ وبدا وكأنهم التقطوا الفرصة واراد الكل منهم استثمارها لحساباته وأن اختلفت منطلقات كل منهم، لكن عقل الدولة الذي ادار مفاعيل الازمة السورية كان يدرك جيداً أن حماسة الأخوان لما يجري في سوريا وهو يدرك أنهم-أي الأخوان- الذين تجاوزوا خلافهم التاريخي مع نظام الرئيس الأسد بعد أحداث حماه بل أنهم انخرطوا في محور الممانعة قبل فترة قصيرة جداً، ونادراً ما كانوا يترددون في حضور أي مناسبة أو مؤتمر في دمشق وصاروا أقرب سياسياً حد التطابق في معظم المقاربات لذلك المحور أنما ينقلبون في مواقفهم توطئة لاستكمال رهانهم على المشهد الجديد والذي قد يدخل الأردن في الهلال الأخواني الآخذ في التشكل حينذاك بعد وصول حزب النهضة في تونس للحكومة والأخوان في مصر من خلال رئاسة محمد مرسي العياط وتعاظم طموحهم في الوصول للحكم في سوريا، أدرك الأردن خطورة ذلك بمعزل عن موقف الأردن الرسمي من نظام الحكم في سوريا وتناقضه في مجمل المواقف السياسية منذ زمن بعيد.
ويبدو أن الأردن الرسمي عندما “عقلن” موقفه السياسي بحيادية كان يخشى الوقوع بين هلالين فعلياً ؛الهلال الشيعي الذي حذر منه منذ عام 2004 – (وقف الأخوان ضد الرؤيا الرسمية) التي سوقها سياسياً وزير الخارجية آنذاك –الدكتور هاني الملقي- رئيس الوزراء الحالي-؛ وبين الهلال الأخواني الذي أراد الأخوان أن يلحقوا الأردن به مستغلين الظروف السياسية الإقليمية متقنين كعادتهم سياسية الدومينو والتقلب في المواقف، والتي كانت تعطي مثلاً الحق لعدنان سعد الدين مرشد الاخوان في سوريا وصف الرئيس صدام حسين بأنه فارس الأمة وتعطي الحق لمرشد الأخوان في العراق الهاشمي في وصفه كقاتل مجرم وكافر، وعندما يطالب اخوان الأردن أن تنحاز الدولة بالكامل ضد نظام الأسد ويعطوا مبرارات لموقف خالد مشعل الذي اختار يومها البقاء في دمشق !!.
استطاع الأردن أن يقرأ المشهد جيداً وان يدرك أن الرهان على سقوط نظام الرئيس الأسد سريعاً هو مجرد تمنيات مبالغ فيها ورهانات لا تستند لأرضيات ثابتة أدركتها الدولة الأردنية بدون ضجيج واستعراض وأن اختلفت دون تصريح مع مقاربات لدول عربية حليفة وخصوصا الدول الخليجية ومصر في العهد الأخواني الذي رحل سريعاً مما ساهم في افشال مخططات أخوان الأردن وتراجع حلم الهلال الاخواني.
صحيح أيضاً أن سوريا ما بعد 17/3/2011 ليست هي سوريا ما بعده وأن النظام تعرض لضعف كبير ولكنه أستطاع أن يصمد وأن يدير تحالفاته الإقليمية والدولية بما فيها إنجاز الهلال الشيعي واستثماره عسكرياً وهو الذي حذر منه الأردن مبكراً بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين وخشيته من وجود عراق مطابق لنموذج ايران يمكن ان يشكل متاعباً للعالم العربي ولحلفائه اقليمياً كتركيا وعالميا كالولايات المتحدة والغرب عموماً ، ويومها تعرض الأردن لهجوم من الصحافة الإيرانية والأوساط الشيعية العربية ما زالت اثاره ماثله للآن؛ الا ان تلك التحذيرات لم تمنع من تحسن العلاقات الأردنية العراقية لاحقاً واستقرار العلاقات مع ايران نسبياً لا سيما وأن الإيرانيين توصلوا لاتفاق تاريخي مع الغرب بشأن الملف النووي ساهم في رفع الحصار عنها وتعزيز مناخات وجودها إقليميا سواء من ناحية تصدير النفط والغاز أو عودتها على المسرح السياسي الدولي.
اليوم وفي ضوء التبدلات في المشهدين العراقي والسوري بعد تقدم القوات العراقية والحشد الشعبي وبدعم التحالف الدولي الذي يعتبر الأردن رسمياً جزءا منه ضد تنظيم داعش الإرهابي في الموصل وكذلك سيطرة النظام السوري وحلفائه ومنهم ايران على حلب والوصول لوقف اطلاق النار الذي استثنيت منه داعش والنصرة يبدو أن الأردن يعيد تأكيد مقاربته السياسية التي تستند على ضرورة الحل السياسي في سوريا وبنفس الوقت القضاء على الحركات التكفيرية الإرهابية وعلى رأسها داعش التي استهدفت الأردن مباشرة خلال العام المنصرم بعمليات قاسية كان اخرها عملية الكرك الإرهابية في جنوب الأردن.
الأردن الذي يشعر بالقلق من وجود الحزام الشيعي الذي قد يمتد في حالة السيطرة على منطقة تلعفر من قبل الحشد الشعبي من طهران لبيروت وان كان هدا القلق -التحذير-أقل حده من ناحية الصياغة مما كان عليه عام 2004 وجاء من شخصية عسكرية قدمت تصورا عسكرياً يرسل إشارات سياسية في ظهور غير معتاد للمؤسسة العسكرية الأردنية في المشهد السياسي الأردني ويبدو أن التطورات المتسارعة عسكرياً وسياسياً في الأزمة السورية استدعت هذا الظهور وهذا الوضوح الذي تجاوز الرسائل.
بالمقابل لا أحد يقلل من مخاطر الهلال الشيعي أو الحزام الشيعي على الأردن وأن كانت الظروف الموضوعية اجتماعيا ودينياً مذهبياً لا تعطيه فرص نجاح وتأثير قوي أردنياً، وعلى العكس من بعض الأقطار العربية الخليجية التي لديها من القلق المبرر الكثير، علينا أن لأ ننكر أن الأردن يجد نفسة اليوم قلق من هلال جهادي تكفيري (بعضهم يسميه قمراً سنياً) أخر لا يقل خطورة يمتد من الموصل في العراق مروراً بالرقة وصولاً لسيناء في مصر وسرت في ليبيا بل أن هذا الهلال يملك أدوات استهداف مباشرة يتقاسم النفوذ فيه اخطر تنظيمين تكفيريين شهدتهم المنطقة منذ قيام دولهم الحديثة. ( داعش والنصرة) .
الأردن اليوم وفي ظل هذه التطورات المتسارعة يعيد تقييم مواقفه استراتيجياً من مجمل الصراعات في المنطقة ولا يمكن أن يتحمل أكلاف أكبر مما هو الآن لا سيما أنه يتحمل عبء اللجوء السوري مالياً واجتماعيا وسياسياً وأمنياً؛ وهو اليوم معني بنجاح اجتماعات الأستانه في 23/1/2017 والتي يبدو أن الطرفين الرئيسين روسيا وتركيا حريصين على دعوة الأردن لحضوره، وأن المشكلة في سوريا والعراق تحتاج جهداً من كل الأطراف الإقليمية للسعي لأنهائها حتى لا تصل النار للجميع وهو ما أشار اليه بوضوح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم بعد العمل الإرهابي الذي ضرب مدينة إسطنبول ليلة نهاية العام الفائت؛ الجميع اليوم تحت تأثير الإرهاب الذي لا يرحم وعلى العالم أن يتحد من إندونيسيا الى المغرب لمواجهته وألا فالجميع سيدفع فاتورة الدم القاسية.
د. زيد محمد النوايسة