نحن العرب غائبون في كثير من الأحيان، وإذا تواجدنا فإن الصراعات الداخلية في ما بيننا هي العنصر الأهم في هذا الوجود، لكن ما زلنا حتى الآن نفتقد الثقة بأنفسنا وبقدرتنا على مواجهة التحديات، وما زلنا بحاجة لمن يأخذ بيدنا وينتصر لنا أو يرشدنا أو يقوم بالعمل بالنيابة عنا. التغيّب اغتراب والاغتراب قاتل للنفس الإنسانية والإرادة والفكر.
هناك حمّى نقاشات في وسائل الإعلام العربية حول ما سيفعله ترامب بنا ولنا بعدما يتسلّم مهام منصبه كرئيس للولايات المتحدة. حلقات الحوار تتعدّد على الشاشات العربية حول الموضوع، والمقالات على مواقع التواصل تترى، والصحف توظّف جهوداً كبيرة في هذا المجال، إلخ. ويندر أن نرى أو نقرأ في مختلف وسائل الإعلام العربية شيئاً حول ماذا سيفعل العرب بترامب، وكل التركيز على ترامب الفاعل والأمّة العربية المفعول بها. وحمّى من هذا القبيل ليست جديدة علينا، بل ترتفع درجة حرارتها مع كل موسم انتخابي صهيوني أو أميركي، وفيها يتذاكى الكتّاب والمحلّلون العرب في طرح التوقّعات والمشاهد التي يمكن أن تنجم عن حصيلة الانتخابات. وفي أغلب الأحيان ينهمك العرب في تقييم ما يُمكن أن يتمخّض قبل الانتخابات، وهم يتابعون استطلاعات الرأي العام ليبنوا عليها اجتهاداتهم. متابعة أخبار الغير بخاصة الذين يمكن أن يكون لهم تأثير على أوضاع الأمّة العربية مهمة، لكنها ليست إلى درجة معرفة مستقبل الأمّة من خلالها. هناك تأثير مُتبادل بين الأمم في مختلف مجالات الحياة، والتأثير المُتبادل يضعف ويقوى تبعاً لعوامل عديدة، وهنا في منطقتنا العربية تتمتّع أميركا وإسرائيل بتأثير كبير على مختلف مشاهد الحياة. لكن يبدو أننا نغالي بهذا التأثير إلى درجة إلغاء الذات العربية. لم أقرأ حتى الآن ولم أشاهد على الشاشات حواراً حول كيف يمكن لنا نحن العرب أن نؤثّر على ترامب أو على نتنياهو. نحن مبدعون إلى حدّ ما بعدّ الوحدات الاستيطانية التي يبنيها نتنياهو، وبتعداد كميات الأسلحة التي ترسلها أميركا لإسرائيل، وأحياناً لا نبدع بتاتاً ونعتمد في معلوماتنا على ما يطرحه الغير من معلومات وإحصاءات والتي يمكن أن تكون مضلّلة وتهدف إلى خداعنا. المعنى أن العرب مغيّبون من الوعي العربي وأن الآخر هو الحاضر في هذا الوعي والذي يهمّش وجودنا ويجعلنا ندرك بعض أنفسنا من خلاله وليس من خلال أنفسنا. أي أن إرادتنا ووعينا قد ذابا في شخصه هو فكرياً وثقافياً وفعلاً بحيث لا نرى لأنفسنا منفذاً نحو الخلاص والتقدّم إلا من خلال وعيه هو وإرادته وكرمه. هنا هي أكبر معضلة يواجهها العرب أفراداً وجماعات ويورّثونها لأبنائهم وهي تغييب الذات. لماذا لا نتمكّن نحن من مواجهة مشاكلنا بأنفسنا وننتظر عبقرية غيرنا الذي لا يعيش ظروفنا ولا يحيا حياتنا لكي يفكّك لنا ما نحن فيه من هموم ويضع لها العلاج؟ ولماذا أظن أنا كعربي أن مستقبلي يُطبخ في مطابخ غيري من أهل الشرق والغرب، وأن لا طاقة لي على إطعام نفسي من جهد يدي؟ تسود في الساحة العربية قناعة وليست بالضرورة مطلقة أن أهل الغرب بخاصة الولايات المتحدة لديها خطط جاهزة حول كيفية السيطرة على العرب وسوقهم كيفما تشاء، وأن إسرائيل هي التي تتحكّم ببلدان عربية عديدة وإرادتها نافذة. وما دامت هذه القناعة حول أخطبوطية الغير موجودة فإنه من غير المُجدي أن أبذل جهدي والأفضل أن أستسلم للإرادة الخارجية.
منذ زمن بعيد، تعمل مختلف وسائل المعرفة والتعليم في الوطن العربي على المبالغة كثيراً في قوة الغير وذلك من أجل تبرير العجز العربي. كم من المرات صوّر الإعلام العربي إسرائيل على أنها الوحش الكاسر الذي يمدّ أذرعه إلى مختلف أنحاء العالم وله هيبة وسطوة، ولكن أتى حزب الله ليخرجها مهزومة ذليلة من جنوب لبنان وليلقّنها درساً قاسياً في حرب تموز. لقد صنعنا أوهاماً حول قوة إسرائيل وقوة أميركا لكي نخدع شعوبنا بأننا أبطال وأقوياء، لكن الغير أكثر قوة منا فنبرّر بذلك كسلنا وعجزنا وضعف إرادتنا، إلخ. نحن العرب غائبون في كثير من الأحيان، وإذا تواجدنا فإن الصراعات الداخلية في ما بيننا هي العنصر الأهم في هذا الوجود، لكن ما زلنا حتى الآن نفتقد الثقة بأنفسنا وبقدرتنا على مواجهة التحديات، وما زلنا بحاجة لمن يأخذ بيدنا وينتصر لنا أو يرشدنا أو يقوم بالعمل بالنيابة عنا. التغيّب اغتراب والاغتراب قاتل للنفس الإنسانية والإرادة والفكر. إنه يعبّر عن حال شلل إنساني بحيث يفقد المرء ذاته وتتبخّر معه ثقته بنفسه، وتنهار قواه بحيث لا يعود يدرك ذاته ولا مقدار قوته ولا قدرته على الوصول إلى أشياء يطمح للحصول عليها سواء كانت مادية أو معنوية. المغترب عن نفسه مغترب عن أسرته ووطنه وعن أحلامه وأمانيه وتطلّعاته، وهو غارق في الأوهام وحبّ الاستعباد والبقاء على الهامش لا يكيّل بصاعه أحد. وهو عبد لمن أراد أن يستعبده لأنه لا قيمة للحرية لديه، ولا كرامة ولا شعور بالعزّة. نحن العرب نعاني من الاغتراب والشعور بالضعة والهوان، ونعاني من عقدة النقص. هذه كلها لها جذورها وأسبابها التاريخية، وهي بحاجة إلى الدراسة والتمحيص عسانا نهتدي إلى وصفات للخروج مما نحن فيه. لم نتمكّن حتى الآن من مواجهة إسرائيل إلا من خلال المقاومة العربية في لبنان وفلسطين، والعديد من همومنا لا نقوى على معالجتها ونطلب النجدة من الآخرين. استدعينا قوى أهل الغرب للتدخّل وحسم الخلاف بين العراق والكويت، وهذا ما حصل في ليبيا وتكرّر في سوريا. حتى الحرب الداخلية في الصومال لم نعالجها واستنجدنا بإثيوبيا لتقوم بالواجب. العلاقة بين الشعور بالعجز والاغتراب تبادلية. العاجز مغترب لأنه ضعيف ومستضعف ويبحث دائماً عمن يدافع عنه، والمغترب عاجز لأنه مشلول الإرادة والفكر. ويبدو أننا العرب نعاني من الأمرين العجز والاغتراب، ومشكلتنا بذلك مزدوجة ومعقّدة. ولا غرابة أننا ننشغل كثيراً بما سيفعله ترامب بنا أو بما سيقوي أعداءنا به. لو لم نكن نعاني عجزاً واغتراباً لما أعجزتنا الأثقال ولما احتجنا لمن يعاقبنا أو يُحسن إلينا. لو لم نكن لكنّا جميعاً أصحاب حمية وشجاعة، ونهبّ جمعاً وأفراداً للدفاع عن أنفسنا ومصالحنا، ولتقدّمنا بكل ثقة واعتزاز. ليس صعباً وضع وصفات للخروج من هذا الوضع غير السليم، ولكن المشكلة تكمن في لمن تضعه. لو كان هناك مَن يقرأ من حكّام العرب، ولو كان من بينهم متنوّرون يبحثون عن الحُكم الرشيد، ويريدون إخراج الأمّة مما هي فيه لقدّمنا الحلول والأفكار ولشاركنا في مختلف النشاطات، لكن حكّام العرب أبدعوا في ملاحقة مفكّريهم وأكاديمييهم المبدعين وكتّابهم الثوريين، ولم يتركوا فسحة أمل لكاتب متحمّس لوطنه وأمّته.