لقد استطاع الشناقطة والمغاربة ما قبل الدولة الوطنية نسج علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية، غالبا ما ابتعدت عن التوتر والتشابك، وحتى الخضوع والإرتهان.
وقيادة المجتمعات والدول تفرض التسامى فوق النظرات الضيقة والأمزجة والمصالح الآنية العابرة المحدودة،فالرئيس السابق معاوية ولد سيدأحمد للطايع إبان أزمة 1989 مع السنغال، لم يكترث كثيرا لخطاب الملك الحسن الثاني رحمه الله بداكار وقتها، حيث قال أن السنغال دولة شقيقة وموريتانيا دولة جارة، وفي أحلك الظروف، وإبان أزمة خانقة، لم يبالغ ظاهريا في التأثر بهذا التصريح غير الودي إطلاقا، لأن معاوية قائد دولة بمعنى الكلمة، رغم كل العيوب والنواقص، وليس راعي إبل، ولم يخصص فترة من حكمه أي وقت لشراب لبن الإبل وأكل لحم الضأن والماعز أو الغزلان ببادية تيرس الزمور، مثل حارسه السابق الحاكم حاليا، على منحى متموج مضطرب بلا بوصلة تقريبا، إلا الحرص على الحكم لجمع المال وإغاظة الخصوم الداخليين والخارجيين وتصفية الحسابات.
إننا بحاجة فعلا للحزم في علاقاتنا مع دول الجوار، وعدم السماح لأي تنازل على حساب الإستقلال والإستقلالية والحوزة الترابية المقدسة، ولكن مع جوار دافئ إيجابي متبادل، لصالحنا ولصالح جميع دول العالم باستثناء إسرائيل، وبالعناية بالدرجة الأولى بدول الجوار القريب، السنغال ومالي والمغرب والجزائر والإخوة الصحراويين الأشقاء، وحسب وجهة نظري الخاصة لم يكن من الحكمة أن نسارع للاعتراف بالدولة الصحراوية الوليدة، قبل حسم النزاع والمصير الوجودي من قبل الصحراويين أنفسهم على اختلاف منازعهم ومشاربهم، فلربما تكون الأغلبية بالمحصلة إلى جانب الحكم الذاتي بشروط مريحة تحت المظلة الرسمية المغربية، أو ربما أيضا تكون الأغلبية مع قيام دولة صحراوية مستقلة بشكل كامل، وهذا قد يحسمه الطرف الأممي يوما ما عبر استفتاء عادل، وإن كان مستبعدا في الوقت الحالي بسبب الضغوط المغربية وضعف هيئة الأمم المتحدة ماليا وسياسيا في الوقت الراهن، لأسباب يطول ذكرها، إلا أن مصائر الشعوب لا تحسم بالقياس الزمني القصير.
وعموما وضعية المنطقة والنزاع الصحراوي بوجه خاص تفرض على موريتانيا المكاشفة والإستقلالية والحياد مع جيرانها المعنيين بالنزاع المزمن المقلق.
فالمغاربة والجزائريون والصحراويون أشقاؤنا، واختلافهم يهمنا حله وتقريبه لا تصعيده، والواقع أننا أضعف من حسمه، فليكن لنا في الحياد مهرب ومخرج، وليس لنا بد من إبقاء الإعتراف بالدولة الصحراوية، لكن دون الدفاع الزائد عن هذا التوجه الذي أقحمنا فيه "الصنادرة" دون توأدة أو حساب دقيق.
وأكررها الجوار خط أحمر مع الإحترام المتبادل.
والناظر إلى الواقع العربي ضمن السنة المنصرمة، ونحن معنيون به بدرجة عضوية، يأسف تلقائيا لاستمرار الحريق والتأزم العربي المتصاعد المتفاقم، دون مؤشرات قريبة للحلحلة والتهدئة، ولو نسبيا.
الفتنة السورية في أوجها واليمنية كذالك والليبية في مستوى مقارب والمصرية في وضعية قلقة، عنوانها السجون والاضطراب والتأزم الإقتصادي وحكم الدولة العميقة الإنقلابية العسكرية، على منحى بشع من مصادرة الحريات المتنوعة، سوى اتباع الهوى، دون تحسن في القطاع السياحي، المرتبك تحت ضغط الواقع البائس والسقوط من حين لآخر للطائرات المحملة بالسواح والأجانب.
كما أن العلاقة مع إيران شهدت أعلى مستويات التوتر مع بعض دول الخليج، في حين قطعت العلاقات رسميا ما بين السعودية وإيران، وبسبب أحداث منى سنة 2015 والتصعيد السعودي الإيراني غاب الحجاج الإيرانيون في الموسم المنصرم، ولم تستطع السعودية رغم الشعارات والتحركات المكوكية بالوسائل الضخمة المفترضة نظريا خلق حزام سني فعال على غرار الحزام الشيعي الإيراني التوجه، وذالك بسبب غرور الدولة السعودية وحرصها على تصدير المذهب الوهابي على حساب المذاهب السنية الأخرى، بينما فتحت إيران صدرها لكل شيعي، وحتى الزيديون اليمنيون، الذين لم يكونوا يوما أقرب للشيعة، أصبحوا اليوم ضمن الفيلق الشيعي الإيراني، المتوسع تدريجيا بدعم روسي، دون إغفال تراجع الدعم الأمريكي عن السعودية لسبب تمكن اللوبي الصهيوني الأمريكي في الدولة الرسمية الأمريكية وتوجيهه بحنكة وقدرة فائقة للسياسات الرسمية الأمريكية، العلنية والخفية بوجه خاص، لصالح توجهاته ونفوذه.
وقد يُعتدى على الحرمين اعتداءا أكبر وأغرب، للأسف البالغ، مع استمرار آل سعود في تجاهل النقد الإيجابي الصادق.
فنحن نعتبر أن العالم الإسلامي معركته الأولى مع إثبات الهوية الإسلامية ومحو إسرائيل من الوجود وإقامة علاقات إيجابية متوازنة نسبيا، ما بين جميع الدول الإسلامية، بعيدا عن الحساسيات المذهبية الممزقة.
وإنني شخصيا أكره ترسيخ الخلاف والنزاع وأميل بقوة لتكريس المحبة الإسلامية بدون استثناء أو تمييز، والدولة السعودية رغم بعض عيوبها، دولة مركزية لأسباب كثيرة ولوجود الحرمين فيها، وينبغي أن تراجع سياستها الخارجية مع السنة المسلمين غير الوهابيين، للتتقوى بهم لا عليهم، ومع أيضا إيران، فالسلم معها خير من حربها، مهما كانت أخطاؤها، فهي مسلمة وجارة باختصار، وهذه النار المشتعلة على أساس طائفي في وجه من وجوههاّ، سواءا في العراق أو سورية أو اليمن، آن لها أن تخبو وتنطفئ، ولن يتم ذالك عبر فوهات المدافع وحمم القذائف، وإنما عن طريق الحوار والتفاهم.
فسارعوا يرحمكم الله جميعا إلى طاولة التفاوض، قبل أن تذهب ريحكم جميعا، وتضحك تل آبيب وواشنطن وموسكو وباريس ولندن، وغيرها من عواصم الغرب بنوعيه الرأسمالي والإشتراكي بملء شقيها.
ولإبداء حسن النية ينبغي أن تتوقف الحرب الإعلامية في الدول المعنية والتصفيات المذهبية المؤلمة، سواءا في إيران أو العراق أو السعودية.
لقد مل إخوانكم المشفقون من التفرج على صراعكم المذهبي الدموي السيزيفي المؤلم بحق، ولتحذر موريتانيا الرسمية من السقوط في حمأة الخلاف والإنحياز السلبي، أو الإستماع إلى دعوات ولد لمرابط لقطع العلاقات مع إيران المسلمة، ولا يعني ذالك البتة، الاستهزاء بالطرف السعودي أو معاناة القطب السني عموما، وإنما الأفضل التفاهم والتقارب بإذن الله، وما ذالك على الله بعزيز.
اللهم سدد وقارب، اللهم آمين.
ومن خلال تجربة الربيع العربي الذي انطلق بتونس وثنى بالقاهرة اتضح أهمية مكافحة الاستبداد وعروش الطغيان، لكن هذه التجربة أكدت خطورة إدخال عنصر العنف في مشروع اجتثاث دولة الاستبداد، فلا خير في التغيير إلا بالنضال السلمي والحساب الإيجابي الحذر، عسى أن لا يكون التغيير سببا في فتنة أعظم من الاستبداد القائم، كما عبرت عن ذالك تجارب مصر واليمن وليبيا، وظلت التجربة التونسية مرهقة بالتحدي الإرهابي وتنازلات مؤلمة على حساب الهوية لصالح دولة علمانية تكاد تكون بدعة جديدة في قوانينها ومبادئها الخليط، بين تجربة الغرب والشرق الإسلامي، ضمن مشية عرجاء، لا هي أصيلة ولا هي عصرية بالكامل بالمفهوم الحداثي الغربي المستورد، فلا هي أرضت الإسلاميين بالمفهوم التقليدي، ولا هي لبت بالكامل رغبة العلمانيين العدائيين بالإقصاء.
ورغم اضطراب التجربة التونسية فقد كرست التعايش، تمهيدا ربما لإقامة دولة تمنح الحرية للجميع، ضمن نموذج جديد لا يشترط الدعوة الصريحة لتطبيق شرع الله، ويعتمد التأويل في ذالك، ربما إلى مذهب غير مأمون في المحصلة على التطبيق الجاد لشرعة الله المنزلة على نبيه الخاتم، صلى الله عليه وسلم، ولا أستبعد القول أن تونس دولة علمانية قبلت التعايش مع المجموعة الإسلامية بالمعنى الأديولوجي، وهذه الأخيرة بدورها تبالغ أحيانا في التنازل، حتى لا تكرر مساوئ التعنت والممانعة من هذا التعايش المرهق، حسب فهم وتقييم تجارب إسلامية أخرى، وسيظل الإسلاميون التوانسة في حاجة ماسة للإقناع بسلامة وإسلامية تنازلاتهم المتواصلة، كما سيحتاج الإخوان في مصر والأردن وغيرها للدفاع عن عجزهم النسبي الملحوظ في الشراكة ومعايشة المخالفين، الغرماء أديولوجيا وفكريا وسياسيا.
ولعلها تجربة في موريتانيا تهمنا للاستئناس، وتدعونا للتمسك بالمزيد من الشراكة والتعايش.
فالمتمدرسون خارج الأيديولجيا الإسلامية عندنا، لا يرفضون على الأقل نظريا الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع ومنطلقا لمشروع الدولة الجامعة "الجمهورية الإسلامية الموريتانية".
وهذا واقع محليا، مشجع دستوريا وسياسيا على المزيد من التقارب، من قبل الإسلاميين، أولا مع غيرهم من الأجنحة الإسلامية، سواءا كانت صوفية أو سلفية أو غيرها، ومع كذالك سائر المناضلين المسالمين في ساحة الشأن العام.
ونؤكد في هذا المقام التقييمي لحصاد سنة 2016، باختصار، وعلى ضوء مشاكل التناوب المرتقبة سنة 2019، عند نهاية حكم ولد عبد العزيز بإذن الله، أهمية تماسك الجيش وسلمية النضال، رغم ضرورة التصعيد الموزون وتهدئة الشارع العام، وأكررها مرارا ودواما، فلا تقولوا الموريتانيون مسالمون، الحمد لله نحن مسالمون، ولكن لكل قوم سفهاء كما قال الإمام العلامة الحبر بداه ولد البصيري رحمه الله، وكما يقال في المثل الحساني "لهروب ألا قبل اللحوك".
فنحن مجتمع ودولة فسيفساء متنوعة متداخلة التركيب والأعراق والشرائح والقبائل والعقد، الحالية والتاريخية، والدعاوي والمظالم الحقيقية والمفبركة والزائدة أحيانا، ونسيجنا هش وسريع الإشتعال عند الفتنة، لا قدر الله، كما أثبتت ذالك حرب "شربب" ما قبل الدولة الوطنية "بالتأريخ الهجري 1255-1285" وبالتأريخ الميلادي "1744-1774"، حيث دامت حرب"شربب" في اترارزة حاليا، 30سنة بالضبط، بين بعض "الزوايا" بقيادة الإمام الشهيد ناصر الدين وبعض "لعرب" أو بني حسان على تسمية البعض، الرافضين لمشروع الهيمنة الذي يقوده الطرف الأول باسم الدين، وتخلل ذلك ما تخلله من أثمان باهظة في الأنفس والأموال والوقت والحرمات، وكانت الخسائر متبادلة، ولو انتهت في آخر المشوار بقتل ناصر الدين وأعيان من جماعته في ضواحي "تكند" عند الكيلومتر 10 باتجاه انواكشوط، والذين دفنوا بموضع "ترتللاس"، وغير ذالك من حروب القبائل والإمارات والنزاعات المتنوعة، ما قبل قيام الدولة الوطنية وما بعدها، مثل أحداث 1989 المؤلمة المخيفة بحق، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وأحداث أخرى دامية بين الموريتانيين وغيرهم، مثل حرب الصحراء الغربية أيضا، تدل على وحشية الموريتاني عندما يثور ويغضب ويتخذ قرار القتل أو الإنتقام بحجة ما، ولو كان اتخاذه لهذا القرار نادرا وصعبا، إلا أنه موجود في السياق التاريخي، وهو ما ينبغي أن يحسب له الجميع، حكاما ومحكومين حسابه الاحتياطي الحذر.
فيا عزيز ويا "اصنادرة" موريتان الإنقلابيين ولصوص المال العام، الضغط يولد الانفجار.
فاستمرار سياسة الحرمان والتجويع والتلويح بالمأمورية الثالثة، والتلاعب بالمال العمومي والشأن باختصار، على منحى مقرف مهين، قد يصب في مقتلة عظيمة مفاجئة لا قدر الله، وقد يكون انقلاب وشيك أدعى وأرحم، إن لم يكن بالمعارضة الراديكالية وغيرها من الساهرين على هذا الوطن من مختلف المشارب، تحرك وحظ وتوفيق، والله وليه وهو القادر عليه.
اللهم سلم سلم مما يلوح في الأفق الداكن المفزع، جراء عدم العدل واستغلال النفوذ على أبشع الصور والأشكال للأسف البالغ.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
ما من صواب فمن الله وما من خطإ فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه.
بقلم عبد الفتاح ولد اعبيدن