لم يزل الخطاب الرسمي للسلطوية الجديدة في مصر يعمد إلى منع غير الراضين والعازفين بين المواطنات والمواطنين من تطوير موقفهم باتجاه معارضة فعالة وبحث عن بديل. ولم يزل الإعلام الموالي للحكم يسهم في ذلك من خلال الدفاع المستمر عن قرارات رأس السلطة التنفيذية، والترويج لانفراد المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية بالقدرات اللازمة لإدارة شؤون البلاد في مقابل عجز كل من هم خارجها (منفردين ومجتمعين)، وتشويه الأصوات المطالبة بالحقوق والحريات بوصمهم كأصحاب مصالح شخصية وتسفيه مناقشاتهم التي تتهم بأنها أبدا لن تأتي بالخبز إلى موائد طعام الأسر المصرية ومن ثم حمل الناس على الإقرار بغياب بديل حقيقي لحكم المكون العسكري ـ الأمني.
في سياق كهذا، يتجدد توظيف مجموعة من المقولات التي حضرت دوما في دولاب عمل السلطوية المصرية ويسهل استدعاؤها وعصرنة صياغاتها لكي تناسب سلطوية اللحظة الراهنة.
على سبيل المثال لا الحصر، تتردد بكثافة مقولة «الرئيس يعمل، إلا أن بعض المؤسسات والأجهزة تحد من نجاح سياساته الصائبة»، ومقولة «لولا تدخل الرئيس المستمر، لكانت الأوضاع الاقتصادية والمالية أكثر سوءا»، ومقولة «الرئيس هو المسؤول الوحيد الذي يدرك عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، ولذلك لا ينام يوميا إلا ساعات قليلة»، إلى غير ذلك من المقولات التعميمية والرومانسية المراد منها الدفاع عن «سجل وأداء» رأس السلطة التنفيذية وصناعة صورته كالمنقذ والمخلص الأوحد. ثم تتواتر في الخطاب الرسمي للحكم والخطاب الإعلامي الموالي له صياغات تروج لكون المؤسسة العسكرية وبدرجات أقل الأجهزة النظامية الأخرى ـ أي الأجهزة الأمنية والاستخباراتية – هي وحدها القادرة على «إنقاذ الوطن» في ظل الظروف الداخلية والإقليمية والدولية الصعبة. ويستتبع ذلك إسقاط مفهوم «العجز عن إدارة شؤون البلاد» على المؤسسات والنخب المدنية في بنية الدولة المصرية وتعريف أدوار تلك المؤسسات والنخب في سياق الالتحاق بالمؤسسات النظامية التي تحمي الوطن والدولة والمجتمع. ويليه التداول الكثيف لمقولات الاستهزاء من السياسة التي توصف «كسفسطة» لا طائل من ورائها، ومن السياسيين الذين يتهمون تارة بالاستسلام لغواية المصالح والعوائد الشخصية وأخرى بالضعف والعجز عن الإلمام بمقتضيات «الإنقاذ الوطني» وثالثة بإتخاذ «القرارات الخاطئة» التي يقع على عاتق رأس السلطة التنفيذية والمؤسسات النظامية تصويبها والحد من آثارها السلبية.
تبقي صورة المنقذ والمخلص الأوحد لرأس السلطة التنفيذية على قدر من التأييد الشعبي، بينما تباعد مقولات الاستهزاء بالسياسة بين الناس وبين البحث السلمي عن بدائل لسلطوية جديدة لم تحقق منذ صعودها في 2013 الكثير من وعدي البدايات، الأمن والرخاء. وحصيلة الصورة والمقولات ليست سوى إسقاط البلاد في وضعية صمت الأغلبية إزاء المظالم والانتهاكات غير المسبوقة وصمتها المريب إزاء السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة، الحصيلة ليست سوى تعميم الصمت بشأن كون السفسطة المسماة اليوم «سياسة» ونقاشاتها المتهافتة وممارسيها الأشد تهافتا هم جميعا من صنع السلطوية التي أحلت سطوة اليد القمعية وتغول الأجهزة الأمنية والاستخباراتية محل حق المواطن في الاختيار الحر بين بدائل رؤى وأفكار وسياسات جادة تحملها سلطات تشريعية وتنفيذية منتخبة وتضفي عليها الحيوية نقاشات فضاء عام لا يكبله الخوف أو تحاصره القيود.
في سياق كهذا أيضا، تحاصر السلطوية الجديدة الأصوات المطالبة بالحقوق والحريات عبر إغلاق الفضاء العام وتوجيه الإعلام الموالي للحكم إلى تشويه مراكز وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني إن هي لم تقبل الاستتباع وترضخ لشروط وظيفة وحيدة هي تبرير الظلم والقمع. لا ترى السلطوية الجديدة في المجتمع المدني المستقل سوى قوى هدامة وفوضوية يتوهم الحاكم الفرد وتتوهم المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية حضورها دوما ما أن ترتفع أصوات المطالبة بالديمقراطية ومقاومة العصف بسيادة القانون. ثم تحتكر زيفا مضامين الوطنية والدفاع عن الصالح العام من قبل السلطوية وإعلامها لكي تمرر في خطوة تالية الادعاء المتهافت بانتفاء حرص المجتمع المدني على الوطن، وتبرر تعرض المنظمات الحقوقية ومبادرات الدفاع عن الحريات والهيئات المعنية بالعدالة الانتقالية لصنوف متنوعة من القمع، وتواصل حملات التخوين والتشويه وإسكات الأصوات المستقلة عبر ممارسات الاغتيال المعنوي.
تتعامل السلطوية الجديدة مع المجتمع المدني كعدو، شأنه هنا شأن المواطن المتمسك بحرية الفكر والتعبير عن الرأي والرافض للصمت على المظالم والانتهاكات. فتعمل بصورة ممنهجة، وكما هو الحال مع الأحزاب والتيارات السياسية الرافضة للاستتباع، على تهجير المراكز الحقوقية وجمعيات الدفاع عن الحريات ومنظمات العدالة الانتقالية بعيدا عن الفضاء العام وتهميش أطروحاتها الاقتصادي منها والاجتماعي والثقافي تماما كالقانوني والسياسي. بل وتخلق وتروج عبر الخطاب الرسمي والخطاب الإعلامي الانطباع الكارثي بكون الحاكم الفرد المسيطر على مؤسسات وأجهزة الدولة الوطنية هو الوحيد القادر على «دفع البلاد نحو الاستقرار والتقدم والتنمية»، وتدعي أن المجتمع المدني في المجمل ما هو إلا عنصر تعويق يتعين إما إخضاعه أو إزاحته بالكامل. والسلطوية الجديدة بذلك تقضي على كل سبيل لشراكة في الحكم وفي إدارة شؤون المواطن والمجتمع والدولة خارج دوائرها، وتلغي كافة أدوات مساءلة ومحاسبة السلطة التنفيذية وفرص إخضاعها لقواعد وإجراءات الرقابة والشفافية. غير أن تنزيل حصار المجتمع المدني في الواقع المصري الراهن يتعلق أيضا بتوظيف السلطوية الجديدة لإجراءات التقاضي العقابي على نحو يسلب حرية العاملين في المجتمع المدني أو يضعهم تحت مغبة التهديد بسلب الحرية دون جرم ارتكبوه، وعلى نحو يجمد عملا أنشطة وحملات المجتمع المدني وقد يلغي وجود المراكز والجمعيات والمنظمات المستقلة.
تأسيسا على ما سبق وعلى الرغم من الأزمات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد، يصعب توقع أن تتوقف السلطوية الجديدة عن القمع وانتهاكات الحقوق والحريات أو أن تكف عن صناعة الأعداء والمتآمرين المتوهمين لتمرير القمع والانتهاكات باتجاه الطلاب والشباب والعمال والأصوات المطالبة بالديمقراطية. كما يصعب توقع أن تنفتح سلطوية ما بعد إفشال ثورة يناير 2011 على صيغ للحكم بها قبول لشيء من الشراكة مع قوى مجتمعية وسياسية رئيسية أو تحرير للفضاء العام والمجتمع المدني من حرب الإلغاء والحصار الراهنة.
عمرو حمزاوي