أتذكّر أن مسؤلاً يمنياً بارزاً وصاحب رأي متحرّر( الدكتور صالح باصره ) قال في العام (2011)أثناء عنفوان ما أكرمنا الغرب بتسميته حينها بـ ” الربيع العربي ” [:(] أشرف لي أكون بقايا نظام على أن أكون مع موجة ستسرق ثورة الشباب وربما بلداننا ومسقبلنا)
لعلّ ذلك الرجل كان مدركا بالفعل أن شعوبنا ستذهب نحو هاوية سحيقة وكياناتنا ستتمزق، وأن الذي كان يجري حينها لم ولن يخدم أحدا أكثر من إسرائيل ودعاة الطائفية والمشاريع الصغيرة ، وقد اثبتت السنوات الأخيرة أنه ، حقا، لم يؤسس إلا للخراب ، ولم يبنِ دولا بقدرما دمر كيانات كانت تُحاول أن تصبح دولا.
واثبتت الأيام أنه لم يحقق ديمقراطية أو يحمي فضيلة ،بقدرما أسس لعشرات الدكتاتوريات على مستوى كل قُطر.
وأثبتت أنه لم يخلص الشعوب من أردية التخلف والتميّز،بقدرما اسقط القيم وسمّم المجتمعات ودمّر حياتها بدلا من مساعدتها على تدبيرها.
وأتبت الأيام أنه وفّر لكل أدعياء العدالة الاجتماعية والشعارات الدينية الغطاء المناسب للعمل على إبتلاع الشعوب تحت يافطات دينية زائفة من أجل الوصول إلى كراسي الحكم وإغتصاب السلطات .
وأثبتت الأيام أن ذلك (الربيع) جنّد الماضي ضد المستقبل،والكراهية ضد الحب ،والحرب ضد السلام، واللادولة ضد الدولة واليأس ضد الأمل .
لقد اصابنا هذا المصطلح الذي فُرغ من معناه وروحه ،بالشلل التام ،مزّق وحدتنا في اليمن وسوريا وليبيا ومصروالعراق ،وقضى على رمزية الدولة وافقدنا عمقنا العربي وتضامن شعوبنا، كما مثّل نقمة كبرى على القضايا العربية الكبرى وعلى رأسها القضية الفلسطينة التي شُطبت من قائمة الأولويات.
ولمن يكابر في الدفاع عنه ، يكفيه فقط الحقيقة التي تقول: إنه حوّل أكثر من نصف الشعب السوري إلى لاجئين،مشردين ،جرحى ، قتلى ، وأكثر من ثلاثة ملايين يمني إلى مهجّرين في وطنهم وخارجه بلا مأوى، و(90%) من إجمالي (27) مليون إنسانا إلى شبه جوعى .
وجعلنا – أيضا – نطبع ونصدر ثلاث صحف شبه يومية وخمس أسبوعية أوسعها إنتشارا تطبع خمسة ألف نسخة،بعد أن كان يصدرويُطبع أكثر من (500) صحيفة ومجلة يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية، وتم بفضل ( ربيعنا) أغلاق وتدمير (8) مطارات يمنية أربعة منها دولية ، ناهيك عن الدمار الهائل الذي طال الموانىء والطرق والجسور والمستشفيات والجامعات والمدارس .
ومن افضاله – أيضا – وبعد الهيكلة تحديدا ،تحويل الجيش اليمني من رابع أقوى جيش عربي إلى ميليشيات ومجموعات مسلحة هنا وهناك تعمل تحت رايات ومسميات عدة ، منها المقاومة ومنها الجيش الوطني (المدرب والممول سعوديا وإماراتيا) وغيره.
وعلى مستوى الصناعات النفطية ،فقد تطور إنتاج اليمن النفطي من (300) ألف برميل يوميا إلى صفر برميل،ومن(180) شركة نفطية وغازية منتجة ومستكشفة إلى صفرشركة .
وحوّل هذا البلد من بلد يتميز أبناؤه عبر تاريخهم بالتسامح والتجانس الديني والثقافي إلى مجموعات متصارعة ومتناحرة طائفيا ومناطقيا.
وحده هذا الربيع ( المبارك ) الذي حقق الحلم العربي ،أو الخازوق العربي، حينما قص شريط أدخال المنطقة في صراعات عبثية تفتقد للقواعد والأهداف والقيم ، وبفضله أنتقلنا من تطلعات الحرية والشراكة والرغبة في التفكير لأجل التفكير،إلى الاستبداد واللاتفكيروإلى الفوضى ومن الفوضى إلى الضياع ومن الضياع إلى العدمية.
الربيع العربي ،وحمدا لله ، حررنا من أنظمة كانت بارعة في تغطية الفساد والأخطاء وحفظ الأمن، إلى فساد مشرعن ،و إلى أمراءحروب وجماعات مفككة كل واحدة منها تُغرد في فلك خاص بها وبمموليها.
لقد مثّل بحقّ تجسيدا حيا لعنفوان البدايات وقبح النتائج واللانهايات، قهرنا بالفقر وذبحنا بالطائفية ، وأغرقنا بالمخاوف وأخجلنا بالفضائح، وحول مدنا وجواهرا تاريخية ومعاصرة كحلب في سوريا وتعز في اليمن إلى هامبورج وفرتسبورغ جديدتين.
وحول السعودية من حاضرة وقائدة للعالم الإسلامي ومتحكم بمنظمة أوبك وصناعة النفط الدولية إلى خصم لنصف العالم الإسلامي ومقاطعة للنصف الآخر ، ومن حليف بارز وموثوق به لدى الغرب إلى حليف من الدرجة الخامسة ، متهم بتصدير وتفريخ الإرهاب .
وإليكم شيء آخر من مزايا الربيع العربي، انطلاقا من قاعدة إن من لا يعترف بواقعه هو نفسه غير موجود :
فقد حول حرارة وتوهج وعنفوان الثورات والشعارات إلى ثقب أسود أبتلع الشعوب والدول والدساتير والقيم ،ورمى بنا خارج المستقبل وأسوار العصر .
ومن يجادلني أدعوه صادقا إلى أن يأتيني بمنجز واحد حققه ( الربيع ) ولم نقرّ به ،حتى سمة التخلف التي كانت مترسخة كصورة نمطية في أذهان شعوب ودول المركز تجاهنا، لم نحافظ عليها كما هي، بل اخذت أشكالا وأبعادا أخرى أكثر تشويها وسوداوية ،فبعد كنا نتسم بالوعي السلفي واللاديمقراطي،صرنا نتصف بالوعي الظلامي، الإرهابي الغارق في الجريمة ودماء أبنائه.
بالله عليكم هل هناك ما هو أكثر إجراما من تدمير بلدان كسوريا واليمن وجعلهما ساحتا صراع تُجرّب فيهما كل أسلحة العالم ، ويتقاطر إليهما كل إرهابيّ وطائفيّ وقتلة الأرض، وهل هناك أسوأ من أن يتحالف الإنسان مع الشر ويعتنق الخيانة ويضع نفسه وشعبه في قبضة فولاذية من البؤس والذُّل والهوان والتآمر وتسليم حياته للمجهول وغلاظ القلوب وميتيّ الضمائروتجار الحروب؟!
نعترف ، أننا كُلّما حاولنا نسيان هذا الواقع ، أوإرغام أنفسنا على التأقلم معه أرتطمنا بكارثة جديدة، بقنابل جديدة تلقيها فوقنا طائرات الأشقاء / الأعداء ،الأهل والغرباء، ولم يسلم منها شيء بما في ذلك المواقع التاريخية التي حولها وكلاء الله إلى مشانق للآثار الإنسانية ومقاصل تجتزّ رأس أبي العلاء المعري والمتنبي والمحضار ومآثر ملوك بابل وسبأ وحمير .
ونعترف – أيضا – أننا كلما حاولنا تهيئة أنفسنا وإجبار عيوننا على النوم والراحة قليلا جاء ما يجعلنا نحس بأن عيوننا صارت بدون جفون وأجسادنا بدون أرواح ،لنكتشف عند كل صباح ومساء كم نحن أشقياء، تعساء ، غرباء ، صغار، عاجزين ،أسرى جهلنا ونوازعنا ،عطشى لوئام مخطوف ،عبيدا لتجار سلام ، عولمي ،مُسلّع.
عبدالكريم المدي