ليس من السهل أن نفهم أمرا أو واقعة اجتماعية بعينها تتعلق بقيم المتمثلة في السلوك الجموعي في أي مجتمع دون الرجوع إلى ماضي تلك القيم والبحث فيه ، مغربلين ذلك الماضي ومستعرضين أوجهه المختلفة بحثا ونقدا وتأملا ، ولا ينطبق هذا الأمر على هذا الجانب فقط ، بل يستحيل
أن نستطيع مناقشة أي مسألة ثقافية أو اجتماعية ، ولا أي شكل من الأشكال التي تتمثل فيها تلك النواحي المختلفة وتتشكل دون الرجوع إلى نفس الينبوع ، ذلك أن القيم على اختلافها والعادات والأعراف والثقافات لا يمكن أن تنشأ اعتباطا دون أن تمر بصيرورة تاريخية طويلة ، قد تتقلب وتتغير بعض من مضامينها أو أجزائها لكن الأصل العام أو المعيار الأول سيبقى في محله معروفا من خلال عناصره الأساسية ، وهو ما يمكننا من قياس أجزاءه المتجددة عليه ، والبحث في أصولها ومراحل تطوراتها المختلفة .
والحال هذا ونحن نعيش في عالم متغير ومرتمي في أحضان أمواج عولمة جارفة ، أحدثت في مجتمعنا على غرار كل المجتمعات، هزات كبيرة وتغيرات غير واعية تسعى بشكل أو بآخر إلى طمس هوية وقيمه المجتمع وإبدالها له بأمور عالمية لا تحتكرها دولة ولا مجتمع بعينه ، لذلك نرى كل تلك التغيرات الواضحة على المستوى القيمي والمعرفي والثقافي ، وظهور قيم أخرى بديلة لم تكن معهودة حتى السنوات القليلة التي سبقت الاستقلال وعقبته كذلك بسنوات أخريات ، لقد أصبح بالإمكان أن نعترف أننا أمام تشكل اجتماعي جديد على المستوى القيمي والمعرفي ، وإلا فكيف يمكن أن نستوعب طبائع بعينها وعينا في بداية حياتنا على أنماط منها ؟ ونشاهد بعد سنوات قليلة ليست هي المعيار المنطقي لتجدد القيم أي قيم ، أخرى مناقضة لها ولا تصب في نفس المصب الذي تصبُ فيه الأولى؟.
يعني ببساطة أن ذاكرة رجل الصحراء كانت مضربا للأمثال ، وان قيمه الثقافية التي تحركه للحصول على العلم كانت مثلا كذلك للتواضع ونموذجا حيا لعظمة المطلوب عند أهل هذه الصحراء كذلك ، الشيء الذي جعل هذه الأرض تخرِّج رجالا وعلماء لديهم من قدرة الاستعاب والتذكر ما لا يستطيع أي إنسان أن يستوعبه منطقيا ، وليس هذا امر من وحي الخيال ولا هو من مشتقات الأساطير ، إنما هو واقع عيني شهد به الشهود ودرس به المدرسون.
وبالطبع لم تكن هذه قيم أناس دون غيرهم ولا فئات اجتماعية دون غيرها ، إنما كانت تلك الطبائع تنم عن سمات قيم واسعة مشتركة بين جميع الساكنة على اختلاف طبائع تربيتهم وعلى اختلاف قبائلهم كذلك وشعوبهم وفئاتهم ، إنها كانت الكل الذي يجمع كل تلك المتناقضات .
فترى رجل الزوايا المتعلم والمريد للعلم - ولا آخذ بدلالة المفهوم عند المتصوفة ، رغم استخدامهم له ، وإنما آخذ بدلالته اللغوية ، التي تفيد بأن المريد تعني الإرادة والسعي لأي شي ، والسعي للعلم بذات هو ما اقصد - يخفض الجناح لمعلمه كأن به بركة ترتجى أو كأن في خفض الجناح له والتودد أجر يُبتغى كذلك ، نفس الشيء حال المريد من المجموعات المحاربة الأخرى ، وتجد عند المربي من المسؤولية ما لا تجده عند أي مربي أو معلم الآن في أي نواحي التعليم يشتغل ، ما سبب كل ذلك؟ ، طبعا تعليم العلم لذات العلم كان أحد أهم الأهداف السامية التي ترتجى ، والآن تعليم العلم من أجل المنفعة المادية ولا شيء سواها هي أسمى الغايات ، فأي سبيل لإشراك الاثنين وجمعهم في إناء واحد حتى تتحقق كل المصالح؟ ، اعتقد أنه سؤال سيبقى معلقا ، على الأقل في هذه الأسطر .
وبالتأكيد أن هناك انقلابات كبرى وتغيرات جذرية على مستوى المنظومة القيمية ستؤدي لا محالة إلى ما لا تحمد عقباه اجتماعيا ، فأسوء الآفات الاجتماعية التي قد تعترض أي مجتمع مهما كان ، هو الانحلال الأخلاقي والتبدل القيمي ، الذي سيعصف لا محالة بمنظومة الثقافة كلها إذا ما أتى أكله .
لقد كان ذهن الرجل حسب تفسيرات معظم مثقفي هذه البلاد حافظة لكل المتون ومكتبة متنقلة ، إذا ما نظرنا إلى الحيز الجغرافي في المنطقة ، على اعتبار أن الورق والمكتبات كانت مفقودة ومعدومة بسبب حياة الحل والترحال التي كان ينتهجها المجتمع بالإضافة إلى توغل نفس المجتمع في البداوة المفرطة ، وقسوة العيش وشحّ الإمكانات تبعا لذلك ، فكان الذهن أو الذاكرة المستودع الوحيد لكل المعلومات .
فتجد الشيخ وهو في محظرته يملي لطلاب كثرٌ في وقت واحد وكل واحد منهم في حزب مختلف عن الآخر ، دون أن يتلعثم أو يخلط بعض الأحزاب ببعضها ، وهذه معادلة ليس باليسر التوصل إليها ، وهي فنٌ ومنحى فريد جدا يحتاج إلى دراسات معمقة في الآنتروبولوجيا النفسية ، لمعرفة كيفية حصوله...!
اليوم طبعا إيجاد مثل هذه الحالات لا أظنها مسألة في المتاح وليست في حساب الأفراد والجماعات إلا ما رحم ربك .
لكن الإشكالية الكبيرة التي تفرض نفسها علينا الآن ، ما هي طرق التعامل مع هذا الموروث من أجل تشجيعه ؟ في وقت تحكمت فيه المصالح وأصبح كل تلك الاعتبارات خارج السياق في ذلك المسعى .
نعم هناك خصائص وطبائع بشرية قد تكون غالبة على الإنسان وهي مسألة عالجها الفلاسفة ونظروا لها كثيرا ، تفيد بأن الإنسان كائن أناني بطبعه ، وعلى حد تعبير المدرسة التعبيرية فإن المجتمع والجماعات التي تتموقع فيه ليست إلا وسيلة أو أداة لتحقيق مصالح الإنسان ، وهذا قد يكون مفسرا إلى تخلي الناس عن ذلك المنحى أو الدرب الأولي ، لكن يبقى دور الدولة بوصفها هي المسؤولة عن كل شيء ، يجب أن تؤسس لمقاربات منهجية تنفض بها الغبار عن ذلك الموروث وتعيده سيرته الأولى كي يساهم في الإبقاء على ثوابت المجتمع ولو قليلا.
ويمكن بناء على ذلك لكي نكون واضحين أكثر حصر نقاط بعينها في هذا المنحى .
- لقد كان التعلم من وسائل الترقي الاجتماعي ، وأمثلة ذلك كثيرة في تاريخ المجتمع وحصرها هنا أو الإشارة عليها سيكلفنا وقتا طويلا وهو ما لسنا بصدده الآن ، واليوم تعددت الوسائل وتشعب والغاية ليست الترقي الاجتماعي وحدها وقد لا تكون تتجاوز العالم الدنوي ، فالظاهر أن التعليم على علاته ليس اليوم إلا هدفا للتوظيف والشغل ، بغض النظر عن تمثلات ذلك اجتماعيا على مستوى التدرج الاجتماعي .
- القيمة كانت تضفي شرعية وقبولا معينا على ذات الأستاذ أو المعلم فتقدمه على أنه خارج إطار الصراع الاجتماعي الكثير تبعا لوظيفته المقدسة ودوره النبيل ، فهل كانت كلك تلك من سمات التخلف ؟ ، الله أعلم ، لكن جدير بالذكر أن الأمر الذي جعل الأوروبيين يقلبون قيمهم العقدية ويقدسون العقل بدلا منها لم يتواجد هنا مطلقا ولا في أي مكان إسلامي ، رغم كل التجاوزات الأخرى التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشبه دور الكنيسة ورجالها في عصر ما يعرف بالانحطاط الأوربي .
- التغير الثقافي بالعادة يجب أن يأخذ معه الملامح الأولى ويبني عليها في إطار سعيه للتجديد ، وهو شيء معدوم فينا ، وقد يكون ذلك ناتج على الإرث الاستعماري وعلى ما ترك الاستعمار من عوائق وأزمات ثقافية وفكرية في جميع شعوب العالم الثالث ، لكن الموائمة يجب أن تبقى خيارا يسعى الجميع إليه، حسب حدود الطاقات ما دمنا مجبورين على ذلك.
- ونحن نعيش هذه الأزمة التي أدت إلى ضعف التكوين وضعف مخرجات التعليم العصري بشكل عام ، لا يكفي بالضرورة إحياء الموروث المادي للحضارة أو للقيم التي حكمت حضارة المجتمع الصحراوي ، وإنما السعي في تمثلها ثقافيا يبقى هو الأساس وتلك مسألة يبدو أننا ما زلنا بعيدين كل البعد عنها.
يبقى أن نشير إلى أن منظومة القيم التي تحكم المجتمع ـ أي مجتمع ـ لا بد من يعاد إليها النظر والاعتبار من أجل استخلاص أشيائها الإيجابية وإحيائها ولو في ثوب معنوي جديد وهو ما لم نشاهده حتى الساعة ، وبالخصوص أننا نعيش في ظروف عالمية جد استثنائية ، باتت فيها كل الشعوب تبحث عن ذاتها وعن هويتها المادية والمعنوية ، لكي تبرز ما يميزها عن الآخر .