أزمنة الخداع! | صحيفة السفير

أزمنة الخداع!

خميس, 26/01/2017 - 17:39

كلما أطلت أزمتنا السياسية بوجهها الشاحب ومشهدياتها القاتمة، من بين سطور بيان حزبي أو مؤتمر صحفي أو تصريح لأحد السياسيين، أجدني مضطرا لأطرح على نفسي ذات السؤال المزمن والمحير: لماذا بقيت هذه الأزمة تراوح مكانها، دون أن يتطوع أحدهم ويرسلها إلى خارج حدود المشهد السياسي، مع تذكرة ذهاب بدون عودة !؟
بمرور الوقت تعاظم السؤال داخلي وأصبحت نقاط الاستفهام أكبر حجما وأطول قامة وأكثر مواربة: هل هناك حقا أزمة أم أننا نحن من اخترع تلك الأزمة؟ وهل الأزمة فعلا حقيقة تعيش بيننا أو هي مجرد وهم أو خوف يعشش داخلنا ويرافقنا عبر السنين؟
لست أدري لماذا أختار الدكتور محمد البرادعي، الدبلوماسي المصري العتيق، الذي تفوح من سيرته الذاتية، رائحة حرب أكتوبر واتفاقية كامب ديفيد وسنيه الطويلة في ردهات الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية والحرب على العراق وإخفاقات ثورة يناير في أم الدنيا وغيرها من الأحداث الهامة، لست أدري لماذا اختار هذا الرجل لكتابه عنوان "زمن الخداع"؟
هل كان الأمر مجرد صدفة، وجهة نظر شخصية، رجل صنع لنفسه منظارا خاصا به ثم جلس مساء يحتسي قهوته وينظر عبر نافذته إلى العالم وما يجري فيه، بعين العجوز المتأفف الذي أحيل توا للمعاش؟ أم أننا فعلا بتنا نعيش في عالم يبيعنا الخداع من الصباح إلى المساء؟
ألم يوهمونا بأن العالم يعيش أزمة مالية واقتصادية خانقة؟ مع أن مظاهر البذخ لم تتوق قط بل زادت وكأن الصور التي تصلنا قادمة من كواكب أخرى بعيدة عنا!
يكفي أن نعلم بأن الأغذية المنتهية الصلاحية التي ترميها المخازن الكبرى في مكبات الزبالة، تكفي لإطعام كل جياع العالم وأن الأرباح التي يجنيها مديرو أكبر الشركات، تكفي لتوفير رواتب مجزية لكل العاطلين على الكوكب، لكي نشعر بكل الحنق الموجود في هذه الدنيا، على أولئك المخادعين الذين يتلاعبون بعقولنا وأعصابنا!
منذ منتصف نهار الجمعة الماضي 20 يناير، والأمريكيون يندبون حظهم العاثر، بعد تنصيب ترامب رئيسا لهم، مع أنهم هم من انتخب الرجل وجاء به إلى البيت الأبيض صحبة تلك الشقراء السلوفينية، لو كان الخيار بيدنا أو بيد المكسيكيين المساكين لتغير الوضع ولبقي ذلك الرجل الجلف وضحالاته التي تجاوزت كل الحدود، حبيس برجه في نيويورك!
ألا توهمنا القارة العجوز صباح مساء وتوهم نفسها، بأن هناك خطرا قادما من الجنوب اسمه "المهاجرون"، مع أن الذي أقام عماد أوربا لم يكن سوى سواعد وعرق أولئك المهاجرين الذين قدموا من كل أصقاع الأرض؟ أيعقل أن تصل بهم النذالة ونكران الجميل، أن يبخلوا على مهاجر أنهكه طول السفر، بقطعة خبز وقهوة ساخنة ورداء يتدثر به من شتاءات الشمال القارسة؟
هو ليس زمنا واحدا بل أزمنة كثيرة للخداع، تتعدد بتعدد الأقطار والأمصار، في موريتانيا لدينا نصيبنا وزمننا الخاص بنا، طبعتنا الوطنية المنقحة من الخداع والأكاذيب، تلك "الثنائية المقيتة" التي توارثتها الأجيال عن الأجيال وترعرعت عليها،
يقول أحد وجهي تلك "الثنائية"، إن كل شيء بخير وأن الشعب يرفل في نعيم مقيم بينما يقول وجهها الآخر أن الوضع منحط وسيئ للغاية وأننا نعيش في قاع الجحيم.
موريتانيا التي نشاهد على نشرات أخبار المساء تختلف كليا عن تلك التي نسمع عنها في صباح اليوم التالي، المناطق العازلة بين الحقائق والأكاذيب، بين الصدق والخداع، ذابت وتآكلت في ظل موجة عارمة من التآكل الوطني والتهريج الشعبي الشامل،
وتلك هي الأزمة العميقة والعقيمة، التي عاشت داخلنا ورافقتنا على مدى أكثر من خمسة عقود، هي عمر دولتنا الوطنية، وهذه الأزمة هي أصل وفصل جميع أوجاعنا وجراحنا الغائرة، فمن غير الممكن أن نبني وطنا خارج أسوار الحقيقة، ومن المستحيل أن نقيم دولة ونحن نخشى الحقيقة ونخافها!
أجدني دائما مضطرا للعودة إلى الدكتور مهاتير محمد، باني نهضة ماليزيا الحديثة، لقناعة راسخة بأن ندرة النسخ الأصلية من هذا الرجل هي التي جعلت الكثير من الضحالات تنمو بيننا ويصبح لها أنصارها والمدافعون عنها،
الدكتور مهاتير، سئل ذات مرة، لماذا تبنون برجا ضخما (برج بتروناس وسط العاصمة كوالالمبور)، وأنتم في ماليزيا شعب فقير ولديكم الكثير من الأولويات؟ فأجاب الرجل بكل ثقة: لقد أردت أن ينظر الماليزيون إلى أعلى،
أعتقد أن علينا أن نعمل بنصيحة الدكتور وأن ننظر إلى أعلى، على الأقل، حتى لا نغرق في بحر الخداع...