أزمة سوريا باتت ملهاة مأساوية أقرب الى العبث منها لأي توصيف آخر، و لابد من القول أننا جميعا كعرب مسؤولون عن حالة الانهيار التي تعصف بعالمنا، و إن تفاوتت نسب المسؤولية غير أنها تقع على الجميع، و أزمة سوريا التي اجتمعت عوامل داخلية و خارجية على صناعتها، كانت أولا و ابتداء منا نحن العرب، و ما كان لطرف خارجي أن يدخل يده لولا أننا وسعنا الرتق و فتحنا الخرق. صنّاع القرار العربي، و بطانة السوء و الشؤم من علماء و كتاب و إعلاميين و مفكرين، فضلا عن القيادات العسكرية و الأمنية، جميع هؤلاء مسؤولون عن مآسي هذه الأمة الثكلى، بداية من قصة العراق 1991 مرورا بليبيا و سوريا و اليمن، دون أن ننسى الأصل و هو “فلسطين”، التي بات موضوعها لا يحظى بالذكر حتى على الهامش؛ و كم هو مؤلم أن تجد العقول و الضمائر الصناعية مشدودة لوادي بردى أو تلعفر او بنغازي أو مأرب، مشدودة حد “التواجد” في حين أن “القدس الشريف” ليس فقط تحت الاحتلال الإسرائيلي، بل يوشك العالم على اعتباره عاصمة “الدولة اليهودية” الأبدية، و لعمري إنها مصيبة لا تجاريها مصيبة؛ و لا أدري إن كان علماء الجهاد و قلب الأنظمة و دعاة الحوريات و قادة جيوش الملائكة يستعدون لإعلان النفير العام أم لا؟ و لا أدري إن كان ملوك و أمراء حريات الشعوب و حقوق الانسان يحضّرون لاجتماعات قمم طارئة، و يرصدون مئات مليارات الدولارات، و يدّخرون آلاف أطنان القنابل و الصواريخ، لمواجهة هذا الإعلان الوشيك الذي يعتبر أولى قبلتي الأمتين و ثالث حرميهما الشريفين “عاصمة يهودية” !!!؟. ظاهر الأمر لا شيء من ذلك.
و من حلقات هذه الملهاة المأساوية الحلقة السورية، و من فصولها الجديدة، ما صدمنا به السيد ألكسندر لافرنتييف (رئيس الوفد الروسي الى كازخستان) في 24 من هذا الشهر، حين أعلن في ختام المفاوضات بمؤتمره الصحفي، على طرح نسخة لدستور سوريا الجديد، قامت روسيا بإعداده بناء على دراستها و تواصلها مع جميع أطراف الصراع في سوريا؛ لم نسمع من السيد بشار الجعفري أي اشارة لهذا التصريح الذي نراه بالغ الخطر، لكونه يمس بشكل مباشر سيادة سوريا، و يطعن بقوة في استقلالية قرارها، بل على العكس جاءت بعض الردود تعكس حالة “إنكار” مستغربة، لا ترقى بأي حال من الأحوال للعقل السياسي، كأنما السيد ألكسندر لم يعني ما قاله، غير أن السيد سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا، تعرض بشكل واضح و صريح يوم 26 لهذا الأمر، و أكد في كلمته أمام الدوما بأن روسيا عرضت على أطراف الحوار السوريين في أستانا نسخة لدستور جديد لسوريا، مع ذلك لم نسمع أي تعليق أو توضيح من مسؤول سوري غير بعض الشخصيات الهامشية التي واصلت حالة الإنكار، الى درجة السخف.
سيرغي لافروف لا يلقي الكلام على عواهنه، و لا يمثل دولة اللوزوطو (مع كل الاحترام لها)، و لا ينكر وزن الرجل و قيمة تصريحه إلا مغيب العقل، و عرض روسيا بعض تفاصيل هذا “الدستور” عبر وسائلها الإعلامية الرسمية ليس عملا عفويا غير مسؤول و لا غير مدروس؛ كنت أتمنى و مازلت أن أقف على توضيح فاصل من قِبل القيادة السورية، غير أنني و مع الأسف و الى غاية كتابة هذه السطور لم أجد من ذلك شيء، مع ان المواد المسربة غاية في الخطر، مع مفارقة عجيبة تمثلت في رد يتيم للمتحدث باسم الجيش الذي أوضح بأن وفدهم رفض استلام نسخة الدستور من الطرف الروسي، متهما إياه بفرض انتداب على سوريا إذا أصر على طرح هذا الدستور.
إذن قصة نسخة “الدستور” باتت واقعا لا يمكن إنكاره، و السؤال هنا: بما أن الدستور مسألة سيادية بحتة، فلماذا تقدمه روسيا على أنه اقتراح منها؟ ثم لماذا الآن؟ و لماذا جاء مفاجئا و دون أي مقدمات؟ لا أتصور في ظل الظروف المعقدة، خاصة منها العسكرية على الأرض، أن عرض هذه النسخة و بهذه الطريقة كان بمحض الإرادة و التقدير السوريين، و لا أدل على ذلك من أن طبيعة الموضوع قانونا و عرفا، تقضي بأن يكون العرض سوريا و ليس روسيا.
إن الاختباء وراء التعابير الإنشائية بوصف روسيا صديقا حميما و مخلصا و وفيا و غير ذلك من مفردات لا تصرف في قاموس العلاقات الدولية، و لا محل لها في قواعد إعرابه، و تسويق روسيا على أنها محررة الشعوب و مدافعة عن حقوقها و مضحية في سبيل الانسانية، لا يحسب إلا من هرطقة سوق عكاظ الذي اشتهرنا به كأمة. هذا الاختباء لا يغني شيئا عن واقع أن روسيا دولة عظمى لا يعنيها إلا مصالحها فقط، مجردة من كل تلكم التوصيفات التي يزخر بها و يعتمد عليها العقل العربي؛ هذا الواقع و هذا التعريف الموضوعي في العلوم السياسية، فحين رآى العقل الروسي بيع مصر 67 باعها، و حين قدّر من مصلحته بيع العراق 91 باعه، و حين تبيّن له التخلي عن ليبيا 2011 فعل ذلك، و لا حاجة للتذكير بأنه احتل دولا و شرد شعوبا و حارب ثقافات و قيما و أديانا. و لا نتصور بل لا يعقل اعتبار موقفه مع سوريا مجرد أخلاق نبيلة و قيم إنسانية و تضحية مجانية منه، هذا طرح يعكس غباء سياسيا مركبا ليس غريبا على العقل العربي.
لذلك يجدر بالقيادة السورية أن توضح للرأي العام موقفها من قصة “الدستور” الروسي، خاصة و قد تقدمته اتفاقية حول قاعدة طرطوس لها ما بعدها، و صاحبته في يوم عرضه تصريحات غير مسبوقة، من المسؤول العسكري الروسي على قاعدة حميميم، و التي حذّر فيها بحدة بعض قادة الجيش العربي السوري من الاخلال بالهدنة؛ و دون توضيح القيادة السورية، لا مناص من اعتبار الدستور الروسي حالة مشابهة لدستور Paul Bremer المشؤوم.
فلاح جزائري
اسماعيل القاسمي الحسني