ثلاثة يمكن أن يفرحوا بمقترح الدستور الجديد لسوريا: دُعاة المحاصصة الطائفية والاتنية والتقسيم المقنّع، دُعاة االنيوليبرالية الاقتصادية، وما يتبعها من ترجمة اجتماعية، ودُعاة تحجيم الجيش السوري عدداً وعقيدة ودوراً. أما ما تبقّى فأمور يخضع ما فيها من سلب وإيجاب للمناقشة. التي لا يتّسع لها المجال في مقال، جمعية المناطق. أية مناطق ؟ وما مصادفة تزامنها مع دعوة ترامب إلى المناطق الآمنة؟
قد يقول البعض إن جمعية المناطق هي بمثابة مجلس الشيوخ ( كل عن منطقته) الموازي لمجلس النواب الذي سُمّي " جمعية الشعب" بدلاً من مجلس الشعب ، ولكن العودة إلى نسبة الصلاحيات المُعطاة لمجلس المناطق تجعله الحاكم الحقيقي للبلاد، بل تجعل من البلاد بلاداً بعدد من الرؤساء فيما لا يبتعد كثيراً عن التقسيم. علماً بأننا لم نقرأ شيئاً عن طريقة تشكيل هذه الجمعية.
وقد يقول آخرون إن النظام الفيدرالي متّبع في أكثر دول العالم بدءاً من أميركا وصولاً إلى روسيا ومروراً بأوروبا وآسيا . صحيح. ولكن هل تقبل الحكومة الروسية أو الأميركية أو غيرهما بولايات على أساس طائفي – ديني أو عرقي ؟ أم إنها مجرّد أقسام جغرافية تخضع للدولة الفدرالية التي تحصر بها أمور السياسة الخارجية والدفاع. وهذا عكس ما يتبدّى في المسودة المُقترحة. إذا كان الهدف هو اللامركزية فهناك الإدارات المحلية، ويمكن تطوير أدائها. أما إذا كان الهدف إرضاء الأكراد، فإن الباب قد فتح لعواصف عاتية في بلد يضم بحُكم تاريخه الألفي أعراقاً مختلفة. يثبت ذلك أن نص اعتماد اللغة الكردية قد ألحق بنص الحق في اعتماد لغات أخرى في مناطق أخرى. علماً بأننا لا نعتبر إن المشكلة هي في التعدّد اللغوي طالما أن للدولة لغة رسمية. ولكن في ما تحمله هذه الإجازة من دلالات في واقع بلبلة الهوية بل ووحدة أراضي الدولة. ولا ندري ما إذا كان للبند المتعلّق بتعديل حدود الدولة وربطه بالاستفتاء العام، رابط بالمشروع الكردي أو التركي، حتى ولو كان من الواضح أن المقصود منه تشريع استباقي لحل مقبل سوف يطرح – أو يفرض- بخصوص الأراضي السورية المحتلة من قِبَل إسرائيل.
الأسوأ بل والأشد سوءاً، من البعد العرقي، هو النص على المحاصصة الطائفية: "التمّسك بالتمثيل النسبي لجميع الطوائف والأديان والمكوّنات لسكان سوريا ، بحيث تحجز بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية". فمنذ متى كانت سوريا بحاجة إلى محاصصة ؟ هل وصل فارس الخوري إلى رئاسة الوزراء بالمحاصصة؟ هل وصل داود راجحة إلى قيادة الجيش بذلك؟ هل وصل كفتارو وقدري جميل بالمحاصصة ؟ هل عرفنا يوماً، إلا بالمصادفة، الهويات الفرعية للقيادات السياسية في سوريا كي نتمكّن الآن من تعدادها؟ أليس من الجريمة تحويل دولة مواطنة تاريخية إلى دولة محاصصة ؟ ألم نر ماذا فعل ذلك بلبنان والعراق؟ ناضل الوطنيون لأجل إلغاء المحاصصة في لبنان كي يتحوّل إلى دولة حقيقية فخضنا الحرب الأهلية وخرجنا منها أسوأ. طرحت لبننة العراق، ونجحت وأصبحنا أسوأ. الآن تطرح عرقنة سوريا، وذلك ما قاتل الشرفاء ست سنوات لمنعه. فهل سيحل السلم الذي فرضته دماء الجيش السوري وحلفائه ما لم تحلّه الحرب؟ هل سيترك توصيف الهوية الوطنية إلى العرق والدين كي نعطي مبرراً لتركيبة دولة الاحتلال؟ بل كي نعود ببلادنا إلى ما قبل المجتمع وما قبل الدولة.
في البعد الثاني والخطير تأتي مسألة إلحاق الدولة السورية باقتصاد السوق حيث يرد حرفياً : " وتخلق الدولة على أساس علاقات السوق ظروفاً لتطوير الاقتصاد وتضمن حرية الأعمال... وتضمن حرية تنقل البضائع والرساميل". والغريب أن ذلك يطرح في وقت تعود فيه أميركا دونالد ترامب إلى مبدا الحمائية وتعزيز اقتصاد الإنتاج، وتتجه أوروبا إلى اللحاق بها. فيما يطلب إلى سوريا أن تعود إلى ما هو أسوأ من مشروع الدردري. بالتحديد: أن تتخلى عن كل منجزاتها في تبني اقتصاد الإنتاج والحمائية الذي جعلها الدولة العربية الوحيدة غير المدينة، (وقد يكون هذا أهم أسباب الحرب عليها.) أن تخلق ظروف التطوير بناء على علاقات السوق لا على علاقات الإنتاج وعلى الأمن الاقتصادي الوطني، أن تفتح حدودها للبضائع والرساميل. ببساطة، أن تطرح سوريا في المزاد العلني . ولا نفهم ما معنى القول بأن " الموارد الطبيعية يمتلكها الشعب". إلا بأنها لا تخضع لسيادة الدولة ، خاصة ونحن على أبواب استخراج الغاز .
في ما ينسجم تماماً مع إلغاء عبارة : " تحقيق العدالة الاجتماعية " من قسم الرئيس، وإلغاء اشتراط نسبة تمثيل العمال والفلاحين في مجلس الشعب . ولنا أن نتخيّل حال بلاد تخرج من الحرب الهّدامة لتجد نفسها وقد جرّدت من كل تكفّل العدالة الاجتماعية من قبل الدولة، وشرّعت أبوابها أمام غيلان الرأسالمال النيوليبرالي ورميت في بحر السوق.
يبقى البند الثالث. المتعلّق بالقوات المسلّحة ، فلا تجنيد إجباري، ولا دور في الانتقال السياسي ، والأغرب ورود عبارة "قمع المواطنين". فهل كان الجيش السوري الذي دافع ببلاء أسطوري عن وحدة البلاد وسيادتها في وجه الإرهابيين الوافدين وعملاء الخارج يقمع المواطنين أم يحميهم؟ وإلى من ستؤول مسؤولية حماية البلاد؟ ولمن تترك مسؤولية "العنف القانوني المشروع" الذي تضطلع به الدولة في كل المبادىء الدستورية في العالم؟ وماذا يعني القول بأن الجيش يخضع لرقابة المجتمع؟ من المقصود بالمجتمع ؟ ولماذا تحذف عبارة " الدفاع عن سلامة أرض الوطن وسيادته الاقليمية" الواردة في الدستور الحالي؟ أهذا هو ثمن تضحيات حُماة الديار؟ أم أنه مطلب إسرائيل في تحجيم الجيش السوري، بعد أن فشل إلغاؤه كما العراقي وتحييده كما المصري؟
شطب عروبة الدولة ( بدلاً من تحديد مفهوم العروبة ثقافياً لا عرقياً)، شطب علمانيتها ومدنيتها، شطب نظامها الاقتصادي القائم على الإنتاج والاستقلالية ومقاومة ثقافة الاستهلاك والعدالة الاجتماعية ، شطب مركزيتها ، في ما يقارب التقسيم، تحجيم جيشها. إذن ماذا بقي من أهداف الحرب على سوريا؟