مضت تلك السنة وكأنها يوم لما أحسست به فيها من شعور بالراحة النفسية فقد كان مسؤولي المباشر يعاملني بكل احترام ربما ليكفر عن التقرير الأسود المخزي الذي عرفت فيما بعد أنه أعده عني أنا وزملائي يوم قدومنا من موريتانيا حين كان يعتبر الرجل الثاني في جهاز الأمن بعد مجرم الحرب سيد أحمد البطل ، وكنت خلال هذه السنة بالإضافة إلى حصصي مع قسم الأطر ذاك أقدم حصصا في اللغة لبعض أقسام الإعدادية وأثناءها كنت أحس بشعور غامر من الفرحة لكوني منذ سنوات لم أقدم لهم شيئا من قلبي لا أشعر معه بالألم النفسي والجسدي .
بعد اختتام السنة الدراسية كانت فرحتي الأولى أني عدت إلى مركز الجرحى حيث قضيت العطلة الصيفية وسط أناس عوضوا أعضاءهم التي بترت بمشاعر إنسانية ينعدم لها نظير تلك الأيام في أرض الحمادة ، والفرحة الثانية كانت حين علمت بعد نهاية العطلة الصيفية أنه تم تحويلي إلى مدرسة 9 يونيو للسنة الدراسية الجديدة (1987-1988) ومن حسن الحظ أن أصبح مديرها الرجل الفاضل ابن الأفاضل أحمدو ولد أسويلم ولد أحمد إبراهيم الذي شعرت بالأمان تحت إدارته مثلما شعرت به تحت خيمة والده الفاضل قبل ذلك بتسع سنوات حين وطأت قدمي ظلها وأنا أتحسس طريقا ما كنت أظنها مليئة بالأشواك .
كان ذلك الرجل كأنما انتشلني من وهد سحيق تمت زحزحتي إليه منذ أكثر من ثلاث سنوات فكنت معه كمن رأى في المنام أنه رمي في بئر مليئة بالأفاعي والعقارب وحين استيقظ فزعا وجد أمه وهي تبسمل وتحولق ثم تنفث نحوه ، ورغم أنه كان يتعامل مع الكل بمنتهى اللطف والأدب فقد كان يخصني باهتمام شخصي خارج إطار العمل إذ كان يمنحني الملابس من حقيبته الخاصة ، ومن المعروف أنه مع أناقة أخلاقه كان أنيقا في ملبسه ، والأهم من ذلك أنه أول شخص أسمعه يقول بطريقة بليغة – وهو رجل مفوه – بأنه لا يصدق أكذوبة الشبكة الموريتانية ، فقد كنت معه ذات ليلة مع مجموعة من المعلمين نستقبل التلاميذ الواصلين من المخيمات بعد العطلة الصيفية وكان أن تصادف وصولهم مع هطول أمطار غزيرة طوال الليل ، وقد استمرت عملية تنظيمهم في المراقد وتوزيع الأغطية والطعام عليهم ومن ثم مراقبة أوضاعهم حتى الصباح إذ كنا في كل مرة نضطر لتحويل من تتسرب المياه إلى غرفهم نحو مكان جاف ، ومع تأخر الوقت لم يبق ساهرا سوى نحن الاثنين ، وفي الصباح وعندما اجتمع الكل في ساحة العلم كما هو متبع قال بسخرية لاذعة تلك الكلمة التي كنت أتوق إلى سماعها وقد صرخت بها عدة مرات أمام من حققوا معي وهي أن ليلة البارحة أثبتت أنه لم يعمل باستماتة و إخلاص سوى المندسين ، وبعدها نادى علي بأن أذهب إلى غرفتي وأنام طول النهار.وطوال الفترة التي أمضيتها تحت إدارة ذلك السيد أحسست أني بدأت أستعيد جزء يسيرا من آدميتي وثقتي في أن الحياة يمكن أن تستمر من جديد بعد أن كنت مجرد ميت يمشي على قدميه في قاموس الجلادين وإن كنت حاولت أن أبقى على مسافة بعيدة من أغلبية الناس حتى لا أترك فرصة لأصحاب " الأقلام السيالة " الذين يعتبرون أمثالي بضاعة رائجة لخطب ود الجلادين وتسجيل نقاط نضالية على درب " التحرير "عند من يهمه الأمر .
يتواصل .......