من ذكريات العراق المؤلمة: 8 شباط نموذجا | صحيفة السفير

من ذكريات العراق المؤلمة: 8 شباط نموذجا

أربعاء, 08/02/2017 - 12:44

لا يمكن الحديث عن 8 شباط دون العودة الى الوراء وربط ماجرى في العراق قبل وبعد 14 تموز 1958، لسبب بسيط ان احداث التاريخ لا تأتي من فراغ. وباعتقادي المتواضع ان ما حدث في 14 تموز كان يجب ان يحدث لان الأمور وصلت الى طريق مسدود بسبب اصرار كل من المرحومين الوصي عبد الاله و رئيس الوزراء المزمن نوري السعيد على التمسك بدورهما وهيمنتهما على السياسة العراقية. ولاشك ان وفاة المرحوم الملك فيصل الاول المفاجئة قد حرمت العراق من ان يسير بخطوات متوازنة نحو الاستقرار لما كان يملكه الملك من نظرة صائبة وحكمة بدوية واضحة. علما بان التفكير بالتغيير لم يكن مقصورا على الضباط الأحرار بل شمل حتى القادة الكبار في الجيش العراقي في العهد الملكي الذين كانوا يخططون لحركة هادئة تصحيحية يتم من خلالها ابعاد كل من عبد الاله ونوري السعيد ليتركوا للملك الشاب المرحوم فيصل الثاني لكي يأخذ فرصته في الحكم دون تأثير او تدخل منهما. وهذا ما اخبرني به المرحوم العميد الركن عبد الوهاب شاكر قائد الفرقة الثانية آنذاك والمرافق الأقدم للملك فيصل الثاني قبل ذلك، وما تحدث به بعض القادة العسكريين اثناء محاكمتهم في محكمة الشعب (المهداوي) بعد نجاح الثورة. كما ان المرحوم الملك حسين ملك الاْردن كان يحرص في كل مرة يلتقي فيها بالمرحوم الملك فيصل الثاني على حثه لياخذ دوره في حكم العراق دون تأثير خاله خاصة، وكان يصطدم مع المرحوم عبد الاله، ولكن دون جدوى. وَمِمَّا لا شك فيه ان اصرار كل من عبد الاله ونوري السعيد على فتح باب الدم والقتل كان سببا أساسيا في الحقد العام عليهما وعلى النظام ، الاول في اصراره على إعدام قادة ثورة مايس 1941 وتعليق جثثهم على بوابة وزارة الدفاع والثاني بإصراره على إعدام قادة الحزب الشيوعي هذه الاعدامات التي خلقت روح الثار عند محبيهم و مؤيديهم. وللمقارنة فان المرحوم الملك حسين ملك الاْردن، لم يلجأ الى هذا الأسلوب العنيف مع مناوئيه ، لا بل انه حرص على تعيين المتامرين عليه في ارقى المناصب وأعلاها.
ولم يتعض المرحوم الفريق الركن عبد الكريم قاسم من ذلك وإنما اصر وبتأثير من الحزب الشيوعي على إعدام بعض وجوه النظام الملكي  مثل المرحوم سعيد قزاز وزير الداخلية الملكي الكفوء والذي أنقذ بغداد من الغرق ومدير الشرطة العام المرحوم عبد الجبار فهمي والمرحوم بهجة العطية مدير الأمن العام الذين كشفا أكبر واخطر شبكة تجسس صهيونية في العراق  . ثم ارتكب الخطا القاتل المتمثل بإعدام  رفاقه من الضباط الذين عارضوا هيمنته المتزايدة على الأمور، لكي يخلق روحا للثار منه جراء إجراءه غير الحكيم هذا، والذي مثل استمرارا بل وتجديدا لمسلسل الدم في العراق. في حين ان الثورة المصرية لم تقتل او تعدم اي من أركان النظام السابق وأخرجت الملك بصورة محترمة، والاهم من ذلك ان قادتها اخذوا عهدا على أنفسهم بان لا يُودِعوا اي من رفاقهم السجن.
بعد قيام الثورة اصر قادة الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي على تصعيد المواجهات فيما بينهما وتركوا اُسلوب التعاون والحوار  لكي يدخلوا النظام الجديد في دوامة صراعات دموية لم ينتج عنها سوى مزيد من الدماء والتمزيق للمجتمع العراقي. فلقد اصر قادة البعث على الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا)، بينما اصر قادة الحزب الشيوعي على الوقوف ضد هذا الهدف بكل قوة. حدثني احد الأعضاء البارزين في الحزب الشيوعي بانه عندما ذهب الى دار الإذاعة في يوم الثورة في 14 تموز مع مجموعة من زملائه للتهنئة، وجدوا المرحوم سلام عادل سكرتير عام الحزب الشيوعي واقفا امام البوابة، وعندما قدموا له التهنئة رد عليهم ان النصر التام لم يتم بعد وان هناك معركة اخرى مهمة تتمثل بالوقوف في وجه الوحدة الفورية. في حين ان احد قادة البعث اخبرني بانه وبعض زملائه الذين ذهبوا للترحاب بقائد الحزب المرحوم ميشيل عفلق في فندق بغداد في الأيام الاولى للثورة اخبر الأخير الحاضرين ان الانتصار التام لم يكتمل وإن هذا لن يتم الا بإقامة الوحدة الفورية، وقال لهم بالحرف الواحد ( اذا قال لنا القادة الجدد ان الوحدة ستقام غدا فنقول لهم بل اليوم واذا قالوا اليوم نقول لهم الان). علما بان ميشيل عفلق كان من أوائل من ايدوا الانقلاب الذي أدى الى الانفصال في عام 1961. وهكذا بدا الصراع المبكر وغير المبرر، ومن المؤسف ان هذا الصراع لم يقتصر على الساحة الايدولوجية وإنما انقلب الى قتل وسحل وتصفيات جسدية. و لا أنس كيف ان مؤيدي كل جهة كانوا يبتهجون لسماع اخبار التصفيات الجسدية، لا بل كانوا يتناقلون صور الجثث المسحولة في الشورارع ويحرضون على قتل وسحل المزيد.
مما لا شك فيه ان المرحوم عبد الكريم قاسم كان شخصا نزيها ونظيفا، لكن هذه الصفة لم تكن له وحده فكل الضباط الذين قاموا بالثورة كانوا يتصفون بهذه الصفة، لا بل حتى نوري السعيد كان يتصف بها ولم يسجل عليه أية رغبة بالاستئثار بالمال العام، وان صفة النزاهة والحفاظ على المال العام كانت ما يتميز به الغالبية العظمى من رجالات العهد الملكي والجمهوري الاول. وبالتاكيد فان صفة العفة والنزاهة وطهارة الذيل كانت صفات تميز المجتمع العراقي كله.
يتفق اغلب الباحثين والمؤرخين ، والكاتب احدهم، على ان ثورة ١٤ تموز بدأت بداية خاطئة عندما اقدمت على مجزرة قصر الرحاب البشعة التي طالت العائلة المالكة نساءا ورجالا وأطفالا ، وخاصة الملك الشاب الذي لم يسجل عليه ما يستوجب هذا المصير البشع ، ولقد حاول الكثير من الضباط الأحرار التنصل من هذه الجريمة ، ولكن الحقائق والكتابات التي ظهرت فيما بعد عن التخطيط للثورة ان الضباط الأحرار جميعا كانوا متفقين على ان لا سبيل لنجاح حركتهم إلا بقتل ( الثلاثة الكبار، الملك والوصي ونوري السعيد). لقد كان لمجزرة قصر الرحاب وما تبعها من سحل لجثة المرحوم عبد الاله ومن بعدها جثة المرحوم  نوري السعيد الأثر الكبير في إدامة مسلسل القتل والدم والعنف الذي استمر بعد ذلك وكرره الحزب الشيوعي في الموصل وكركوك و وصل الى درجة مروعة بعد 8 شباط على يد حزب البعث، حيث بدا بالقتل العشوائي للشيوعيين او من اتهموا بموالاتهم وامتد ليشمل كل معارض للنظام الجديد.
في تقييم اخير لنظام عبد الكريم قاسم يمكن القول ان إيجابياته وسلبياته أدت الى الإطاحة به.  لا يمكن لاي منصف ان ينكر ان الرجل قام بأعمال عمرانية كبيرة غيرت مجرى حياة الطبقة الوسطى والفقيرة، وهذا ما جعل هاتين الطبقتين، وخاصة الاخيرة، تشعر بانه قريب منها، لا بل يمثلها. كما انه قام بتحديث الجيش العراقي وزيادة عدده، وأرسى بداية نهضة صناعية وعمرانية. والاهم من ذلك انه اصدر قانون رقم 80 العظيم الذي أنتزع الثروة النفطية من يد الشركات الأجنبية، ولكنه من الناحية السياسية لم ينجح في ارساء نظام حكم مستقر وثابت. فلقد اعتمد اُسلوب الاعتماد على جهة سياسية لضرب جهة اخرى، وكان يغير تحالفاته حسب ما يرتاي وما يضمن بقاءه كحاكم مطلق. كما انه ورّط نفسه في حرب غير مطلوبة في كردستان العراق وخسر تأييد الأحزاب والشخصيات الكردية التي وقفت الى جانبه. كما أشعل نقمة الوحدات العسكرية التي زجها في حرب شجعت القوى الخارجية مثل ايران وإسرائيل وبريطانيا ثم الولايات المتحدة للتدخل في شؤون العراق ولإضعاف حكمه.
لقد ادت أخطاءه، وخاصة إعدام المرحومين رفعت الحاج سري، المؤسس الاول لحركة الضباط الأحرار، وناظم الطبقجلي، الى ان يتحالف الخط البعثي-القومي ضده. كما ان إنجازاته الثورية مثل قانون الإصلاح الزراعي وقانون رقم 80 ، كانت السبب في اثارة القوى الرجعية والغربية وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة ، للتآمر عليه.
في عام 1962 بدا واضحا ان نظام الفريق قاسم كان قد فقد السيطرة على البلاد وانه كان عاجزا عن إصلاح الأمور. فداخليا كانت الحرب العقيمة في كردستان العراق مستمرة ومستعرة وتحصد ارواح العراقيين، و لم يتخذ اي اجراء سلمي لإيقافها، وأصر على الحل العسكري. كما ان وزارته الاخيرة كانت هي الاخرى عاجزة وناقصة ووصل الامر الى ان تناط عدة وزارات الى وزراء اخرين بالوكالة، ولم يسع الى تعيين وزراء جدد. اما على المستوى الدولي فلقد كان العراق يعاني من عزلة كبيرة بسبب القرار الذي اتخذه الفريق قاسم بقطع العلاقات الدبلوماسية مع كل دولة تعترف بالكويت بعد ان كان قد طالب بضمها للعراق في عام 1961. وهكذا يمكن القول ان نظامه كان مرشحا للسقوط من قبل اغلب المراقبين.
وكالعادة جاء التغيير مشبعا بالدم والقتل. وأصبحت الأندية  والساحات الرياضية مراكز للاعتقال والتعذيب والإعدام الفوري وبدون أية محاكمة. وتميزت تجربة 8 شباط بأنها لم تكن دموية في بدايتها فحسب وإنما امتدت طوال العشرة أشهر من هذه التجربة، بدأت التصفيات بالشيوعين والقاسميين وانتقلت الى القوميين العرب ثم الأكراد، لتنتهي بصراع بين قيادات حزب البعث نفسها.
لم اجد من خلال قراءاتي ، وهي وبكل تواضع ليست بالقليلة، ما يثبت ان وكالات الاستخبارات الأجنبية قد مولت او خططت لما حدث في 8 شباط، ولو انها كانت فرحة بسقوطه، وخاصة الدول المالكة للشركات النفطية، وإيران التي تصورت ان العراق يتجه آلى حكم شيوعي، وإسرائيل التي وجدت في حكم قاسم وتأسيسه لجيش التحرير الفلسطيني، خطرا عليها، وفرنسا التي اعتبرت دعمه الكبير لثورة الجزائر، تحديا لها، ولكنها لم تكن مخططة او مشتركة في التغيير. نعم كانت هناك شبهات تحوم حول بعض المشاركين في الانقلاب وارتباطاتهم الخارجية ، و علامات استفهام على بعض قيادات الانقلاب. فمثلا تبقى حادثة قتل المرحوم محمد سليم الصفار المصرفي العراقي المعروف في الأيام الاول للحركة، والذي قيل انه عذب وقتل لانه وبحكم عمله مرت عليه عملية تحويل مبلغ مالي من جهة  اجنبية مشبوهة لقيادي بعثي قبل 8 شباط، الذي حرص على تصفيته ليطمس هذه الحقيقة، او ما كتبه قياديون بعثيون عن رفاق لهم حول وجود علاقات لهم مع أشخاص متهمين بانتمائهم لاجهزة مخابرات اجنبية. أقول ان كل هذه الأمور تبقى فردية وان هذه الظاهرة موجود في كل الأنظمة في العالم الثالث. فمثلا وجود شخص مثل المرحوم أنور السادات الذي كُشِف الكثير عن ارتباطاته الخارجية، لا يمكن ان يجعل من الحكم الوطني الذي قاده الرئيس الراحل والخالد جمال عبد الناصر  نظاما عميلا او جاء بارادة خارجية. وهذا ما ينطبق على النظام الذي جاء للحكم بعد 8 شباط، والذي لدي الكثير والكثير من النقد له، فوجود أشخاص لهم ارتباطات مريبة لا يضفي صفة العمالة على النظام بكامله او انه جاء بتخطيط مخابراتي اجنبي، والى ان تظهر وثائق تدلل او تثبت ذلك، علما بان مدة كافية قد مضت على هذا الحدث وان كل الوثائق التي نشرت لم تؤكد هذه التهمة، وهذا ليس دفاعا. واصلا فان منتقدي نظام 8 شباط ليسوا بحاجة الى مثل هذه الاتهامات، ويكفيهم ان يعددوا ما قام به النظام آنذاك من قتل وتعذيب واسع النطاق وتخريب للقوة العسكرية العراقية  وحادثة قطار الموت المعروفة لكي يثبتوا ان هذا التغيير لم يكن ما يطمح له العراقيون. ويكفيهم ان يذكروا انهار الدم التي جرت على يدهم، والتي ندم عليها فيما بعد بعض قادتهم, وكتبوا ذلك، ويكفي ان يذكروا ان في مدة حكمهم التي امتدت عشرة أشهر لم يشهد العراق اي استقرار او بناء او تطور، وإنما صراعات دموية مستمرة، كل هذه السلبيات كافية لان تضع هذا النظام في درجة متدنية جدا من تاريخ العراق الحديث.
وتبقى ملاحظة شخصية او سؤال لم يجد العراقيون الجواب عليه لحد الان، وهو كيف انقلب أعضاء الحزب الشيوعي وقيادييه، وهم الذين اشتهروا بثقافتهم ومعاناتهم واختلاطهم بالجماهير المسحوقة الى أشخاص يمارسون التعذيب والقتل والسحل، او يسكتون عنه بل ويشجعونه؟ وكيف انقلب قياديي وأفراد حزب البعث بعد  8شباط ، وهم الذين عرف عنهم تمسكهم بالاخلاق والدين، و حرصهم على فصل اي رفيق من حزبهم اذا بدر منه اي تصرف ينافي الأخلاق، كيف انقلب هؤلاء بين ليلة وضحاها الى أشخاص يمارسون أبشع انواع التعذيب ويتلذذون به وبالقتل العشوائي؟ ان قراءة عقلانية وموضوعية ومتأنية للتاريخ هي وحدها التي يمكن ان تجيب على هذه الأسئلة وتفسر هذه الظاهرة التي مازال العراق يعاني منها. وتبقى مهمة العقلاء هي ان يستنبطوا عبر الماضي ويقترحوا الحلول لتفاديها. وان الاحقاد والبناء عليها وإثارتها لا يمكن ان تؤدي الا الى استمرار مسلسل الدم الذي صبغ تاريخ العراق الحديث ولإيزال وباسف شديد مستمر لحد الان.

 

د سعد ناجي جواد